إخصائيون : نسب "مخيفة" لحالات التوحد مقابل غياب وعشوائية الرعاية
إخصائيون : نسب "مخيفة" لحالات التوحد مقابل غياب وعشوائية الرعاية
الطفل "عزام" كان طبيعيا ومؤدبا جدا، ينظر في المارة ويبتسم عن بعد بمجرد أن يشعر أن الحديث يدور عنه، وماهي إلا دقائق تقضيها بالقرب منه حتى تعرف أن حالة التوحد التي يعانيها لاتمثل مشكلة ذات أهمية على مستوى استقراره السلوكي، بل أنك ستحتاج إلى وقت طويل لتعرف أنه يعاني هذه الحالة فعلا إذا استبعدنا تفاصيل المشهد الذي يقول لك بوضوح إننا في اليوم المفتوح للتوحد في مدينة الملك فهد الطبية، وإن "الاقتصادية" كانت تقف في جناح "مركز عزام للتوحد"الذي أسسته والدته السيدة لولوة العتيق سمته على ابنها بناء على تجربتها الناجحة في تأهيله وتعليمه حتى عرف تحسنا نوعيا جعله يبدو بكل ذلك الهدوء دون أن يكسر وقار جلسته تلك بابتسامة مزهوة مشوبة بخجل حين ذكرت والدته أنه يدرس حاليا في الصف السادس في مدرسة اعتيادية ومع طلاب أسوياء.
#2#
الوالدة التي لاتملك تأهيلا أكاديميا في مجال التربية الخاصة اختارت أن تستخدم خبرتها في أن تكون أما للعديد من التوحديين الذين ينضمون إلى المركز الذي دخل عامه الثالث قبل أشهر فقط، وهناك يتم إخضاعهم لخطط وبرامج في مجالات عدة منها العناية الذاتية والمهارات الاجتماعية والإدراكية والحركية، فضلا عن التواصل والنطق والتخاطب والتربية الفنية والبدنية.
تجربة أم عزام وصلت إلى تقديم "معلمة لكل طفل"، لكنها مازالت تقوم بعمل صعب قياسا على ضعف الوعي الاجتماعي بهذه الحالات، وندرة المراكز التخصصية التي مازال عددها عاجزا عن الدخول في معادلة منطقية مع عدد حالات التوحد في المملكة، في الوقت الذي تطلب فيه بعض الجهات التأهيلية مبالغ طائلة في مقابل خدمات الرعاية مع تزايد الحاجة إليها، حيث يلفت الدكتور إبراهيم بن عبد الله العثمان أستاذ التربية الخاصة في جامعة الملك سعود إلى وجود نسب "مخيفة" لارتفاع حالات التوحد تبعا لدراسات تتكلم عن معدل طفل توحدي من بين كل 150 طفلا، وهو المعدل الذي تتضاعف فرصه أربع مرات على مستوى الذكور، بحيث يمثل نسبة طفل توحدي ذكرا واحدا من بين كل 94 طفلا طبيعيا، الأمر الذي يتطلب خطة وطنية لمواجهته حسب رؤية الدكتور العثمان الذي أوضح لـ "الاقتصادية" وجود ما يقارب 115 ألف حالة توحد في المملكة حاليا، تم اكتشاف بداياتها في عام 1994م وذلك بعد مرور 66 عاما من ظهور التوحد للمرة الأولى في أمريكا، وأشار كذلك إلى أن بداية التعامل الرسمي محليا مع التوحد كان في عام 1998م عن طريق وزارة المعارف سابقا.
الدكتور العثمان تحدث بشفافية عن وجود فارق هائل بين معدلات التوحد ونسب التعامل التخصصي معها، منتقدا القلة الحادة في عدد المراكز واقتصارها على المناطق الكبرى فقط، ليجيب عن سؤالنا حول مدى قيام الجهات المعنية بدورها فيقول "وزارة الشؤون الاجتماعية قامت بجهود كبيرة ومن ذلك برامج التأهيل الشامل، لكن مازالت تلك الجهود غير كافية نظرا لوجود عشوائية، فمن حيث الكم ما زالت لدينا قوائم انتظار هائلة وقلة مراكز، ومن حيث الكيف فهناك قصور في نوعية البرامج المهنية والاجتماعية، فضلا عن غياب الاستعانة بالمختصين من الجهات الأكاديمية والخدمية، بينما عادت برامج وزارة التربية خلال الأعوام الأخيرة للتقلص، ولم يتم تطويرها بعد أن توسعت بشكل كبيرفي وقت سابق، وهذا جعلها بمعزل عن التطور العلمي المستمر في أساليب التشخيص والمعالجة، في جانب آخر – يضيف العثمان – تبدو جهود وزارة الصحة أكثر وضوحا من خلال الوحدات التشخيصية واللقاءات الدورية التي تقدم فقط من خلال جهود فردية كالتي يقدمها العاملون في مدينة الملك فهد الطبية، ونحن نطالب بتوسيع دائرة هذا العمل ليشمل مناطق المختلفة لمملكتنا الحبيبة".
في تجربة أخرى وعلى مقربة من طرق التعامل مع التوحديين ، تتحدث نهى السعيد الإخصائية الاجتماعية في مركز آفاق عن صعوبة دمج أطفال التوحد في المؤسسة التعليمية نظرا لغياب الوعي الكافي بتقبل مثل هذه الأوضاع الإنسانية وتفهم معاناتها، مؤكدة أن بعض التصرفات غير المسؤولة تؤثر سلبا في عملية التعايش الطبيعي لطفل التوحد مع مجتمعه، في حين ترى فاطمة الخالدي الإخصائية الفنية أن تعاون الأسر مع المراكز المتخصصة يسهم في كسر الحاجز النفسي تجاه هذه الفئة التي يملك كثير من أفرادها قدرات ومواهب يمكن استغلالها، وأشارت الخالدي إلى أن استخدام الفن التشكيلي والرسم والحياكة يلعب دورا مهما في تحسين هذه الحالات وزيادة ثقتها بنفسها، فيما تؤكد أفراح الدقمة الإخصائية الاجتماعية في مدينة الملك فهد الطبية أهمية أن ينظر المجتمع باهتمام لحالات التوحد، بحيث تتكاتف الأسر والمراكز في توفير البيئة الملائمة لها للاندماج في أسلوب حياتي يقوم على ثقافة كافية بطبيعة هذه الحالات ووعي بطرق التعامل معها، وعمل جاد لدعم المراكز التي تعنى بها.
لم تكن جولة "الاقتصادية" قد انتهت تماما في الوقت الذي كان طفل الأعوام الأربعة التوحدي الذي يبدو عليه الذكاء يقول بصوت عال "باي باي" مجيبا على عبارة "مع السلامة" من الدكتور إبراهيم العثمان، قبل أن يبدأ "عزام"في مساعدة والدته في لملمة المشغولات اليدوية عن جناحها الخاص استعدادا لمغادرة المدينة الطبية، كان يساعدها بهدوء ولم يفقد ابتسامته حتى غادرا.