مصدر القلق الكبير

مصدر القلق الكبير

يدفع المرء ثمنا غاليا لانغماسه بإفراط في أي شيء. فبعد سنوات مثلا من تناول الطعام بإفراط وشرب الكثير من الخمر، يدفع الجسم الثمن. وبعد سنوات أيضا من الانغماس في إنفاق المال المغذى بالديون، يدفع المرء الثمن من ماله. فقد كانت الحكومات تدعم الاقتصاد العالمي عن طريق الانغماس في الاقتراض. واستنزف الركود الإيرادات الضريبية وكان صنّاع القرار ينفقون مبالغ هائلة غير مسبوقة للإبقاء على اقتصاداتهم ودعم بنوكهم، وبالتالي بدأت الديون السيادية في التراكم.
ووفقا لدراسة أجراها اقتصاديون في صندوق النقد الدولي وتم نشرها في التاسع من حزيران (يونيو)، فإنه بحلول العام المقبل، سيبلغ إجمالي الدين العام لأغنى عشر دول، وهي تلك التي حضرت اجتماعات قمة نادي مجموعة العشرين المكونة من الاقتصادات الكبيرة، 106 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 78 في المائة عام 2007. وهذا يعني أكثر من تسعة تريليونات دولار من الديون الإضافية خلال ثلاث سنوات.
ولا يزال هناك المزيد. فحالات العجز في الميزانية ستظل كبيرة، لأن النمو الاقتصادي سيكون ضعيفا على الأرجح لعدة سنوات بعد انتهاء الركود، خاصة في دول مثل أمريكا وبريطانيا، التي يجب على مستهلكيها المثقلين بالديون إعادة بناء مدخراتهم. وقد حدد الاقتصاديون في صندوق النقد الدولي نسبة قاعدية للدين الحكومي للدول العشر الغنية بحلول عام 2014، وهي أن يصل إلى 114 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي السيناريو الأكثر تشاؤما الذي تعاني فيه الاقتصادات لفترة أطول وتؤدي بموجبه المخاوف المتعلقة بعدم قدرة الحكومات على الوفاء بالتزاماتها المالية إلى رفع أسعار الفائدة، قد تبلغ نسبة الدين 150 في المائة.
ولم يسبق أن اقترضت الحكومات مثل هذه المبالغ الكبيرة في أوقات السلم. وديونها الضخمة ستشكل الاقتصاد العالمي طيلة عقد من الزمن. والاقتراض معقول على المدى القصير: على الحكومات توسيع ميزانياتها لمواجهة السرعة الهائلة التي تخفض فيها الشركات والعائلات إنفاقها. ولو لم تتدخل الحكومات، لكان تحول القطاع الخاص إلى التوفير سيؤدي إلى ركود أعمق. وستنخفض الإيرادات الضريبية بنسبة أكبر، وستكون البنوك أكثر تقلبا، وقد يكون الاقتراض العام أعلى.
وحتى الآن، فإن تجنب المخاطر الذي جعل تدخل الحكومة ضروريا أدى أيضا إلى تقليل تكلفته. فقد اندفع المستثمرون إلى السندات الحكومية الآمنة، ما سمح للمقترضين السياديين جمع المال بثمن بخس. وعلى الرغم من ارتفاع العائدات هذا العام، إلا أن الحكومات في معظم الاقتصادات الكبيرة لا تزال تدفع أقل مما كانت تدفعه حين بدأت الأزمة عام 2007.
وتتعلق مصادر القلق الحقيقية بالمدى المتوسط. ويتعلق بمدى الضرر الذي سيلحقه ارتفاع المديونية بالنمو الاقتصادي والجدارة الائتمانية للحكومات؟ من الواضح أنه لا يمكن تحمل تكاليف الاقتراض على النطاق الحالي، ولكن هل ستتمكن حكومات الدول الغنية من احتواء أعباء الديون التي تعانيها من خلال ضبط الميزانية فقط، أم هل ستميل إلى اللجوء للتضخم أو حتى تضطر إلى التخلف عن السداد؟ سيتطلب تقييم هذه المخاطر دراسة الأزمات التي حدثت في الماضي والأسواق المالية الحالية.
يشير التاريخ إلى أن التراكم الهائل للدين العام أمر محتوم تقريبا بالنظر إلى حجم الانهيار الذي حدث في الآونة الأخيرة. وتظهر دراسة شملت 14 أزمة مصرفية حادة حدثت في القرن الـ 20، وأجرتها Carmen Reinhart من جامعة ماريلاند و Ken Rogoff من جامعة هارفارد، أن الدين العام يرتفع بمتوسط 86 في المائة بالقيمة الحقيقية في السنوات التي تلي حدوث كساد مالي كبير، حيث تضعف الاقتصادات وتضطر الحكومات إلى القيام بمحاولات متسلسلة لإنعاشها.
ومن الشائع حدوث حالات تخلف عن السداد أو ارتفاع التضخم. وفي الثلاثينيات، غيرت حتى أمريكا وبريطانيا شروط الدين الحكومي. وألغت أمريكا "البند المتعلق بالذهب" (الذي يحدد دفعات الفائدة ومبلغ القرض الأساسي على أساس الذهب). وأعادت بريطانيا هيكلة شروط بعض سندات الحرب. وأدى التضخم المفرط إلى تخفيض أعباء ديون ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
ومنذ الأربعينيات، لم تتخلف أي من الاقتصادات المتقدمة عن سداد سنداتها (على الرغم من تخلف عديد من الاقتصادات الناشئة عن السداد). وتمكن كثير من حكومات العالم الغني من تخفيف أعباء ديونها دون اللجوء إلى التضخم المرتفع. وزادت نسبة الدين العام في بريطانيا إلى 250 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي نتيجة للحرب العالمية الثانية، وتجاوزت نسبة الدين العام في أمريكا 100 في المائة. وانخفضت النسبتان بشكل حاد في العقود اللاحقة، ويعود ذلك بصورة رئيسة إلى النمو السريع.
وخلال الـ 20 عاما الماضية، خفض عديد من الاقتصادات الأصغر، بما في ذلك كندا، الدنمارك، وأيرلندا، ديونها العامة بنسبة 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي أو أكثر مع تسارع النمو الاقتصادي وتضييق الميزانيات. وحققت ألمانيا نجاحا ملحوظا: في عام 1987 كان إجمالي ديونها 109 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ولكنه انخفض إلى 25 في المائة بحلول عام 2007. وأثبتت دولة صغيرة أخرى، هي السويد، أنه يمكن إنعاش المالية العامة بسرعة بعد حدوث كساد مصرفي. ففي أوائل التسعينيات، ارتفعت أعباء ديونها الحكومية من 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 70 في المائة، ولكنها انخفضت إلى أقل من 50 في المائة بحلول عام 2000.
ومع الأسف، هناك الكثير من الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد أنه من الأصعب اليوم حدوث انتعاش سريع. فعدد الدول التي تعاني ذلك يقلل احتمالات أن تتمكن أي منها من الاعتماد على الصادرات لتعزيز الانتعاش الاقتصادي، كما فعلت السويد. وقد تكون اليابان سابقة مهمة، وذلك لأن على العائلات أن توفر بصورة أكبر ولأن النمو قد يكون بطيئا لعدة سنوات. فقد تسببت سنوات من الركود في اليابان بعد انفجار فقاعة العقارات إلى زيادة نسبة الدين العام لليابان ثلاثة أضعاف، من 65 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1990 إلى أكثر من 170 في المائة الآن.
ولم يعد بوسع الحكومات الاعتماد على بعض القوى التي ساعدت على تحسين الصحة المالية في الماضي. فخلال الحرب العالمية الثانية، لم يكن من الممكن هروب الرساميل، وكانت الحكومات تسيطر على الأسعار ويمكنها اللجوء للنزعة القومية. ولكن الآن عليها أن تثبت نفسها في أسواق رأس المال العالمية. وفي الآونة الأخيرة، ساعدت الانخفاضات الحادة لأسعار الفائدة أيرلندا وغيرها من الدول. إلا أن الثروة الإضافية لن تتكرر لأن أسعار الفائدة منخفضة أصلا.
علاوة على ذلك، فإن الأزمة المالية ليست السبب الوحيد لضغوط الميزانية. ففي أمريكا مثلا، وضعت إدارة باراك أوباما خططا طموحة لتوسيع نطاق تغطية الرعاية الصحية، مع أنها وعدت بدفع تكاليفها. والأسوأ من ذلك هو أن أكبر زيادة للديون العامة للدول الغنية في وقت السلم تحدث تماما قبل الانهيار البطيء في المالية العامة لمعظم الدول بسبب ارتفاع نسبة العمالة المسنة وتزايد تكاليف الرعاية الصحية. ووفقا لحسابات صندوق النقد الدولي، فإن القيمة الحالية للتكلفة المالية للسكان المسنين أكبر بعشر مرات من القيمة الحالية للأزمة المالية. وإذا لم تتم السيطرة على الضغوط الديموغرافية، ستؤدي إلى زيادة الديون العامة المشتركة للاقتصادات الغنية الكبرى إلى 200 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030.
وقد يغري الحجم الهائل للأعباء المالية الحكومات بمحاولة تخفيف أعبائها عن طريق التضخم أو حتى عن طريق التخلف التام عن السداد. ويبدو التضخم خيارا معقولا بصورة متزايدة لأن عديدا من البنوك المركزية تقوم بالفعل بطباعة المال لشراء السندات الحكومية. وبالنسبة للمتشائمين الماليين، فإن تلك مجرد خطوة صغيرة نحو طباعة المال لدفع فواتير الحكومة. وما يزيد قلقهم هو أن عديدا من الاقتصاديين يقولون إن موجة من التضخم المتواضع ستكون الطريقة الأقل إيلاما لتخفيف المشكلات المالية.
وقد يؤدي تراكم الديون للعالم الغني إلى تغييرات في الجدارة الائتمانية للدول. ولطالما اعتبر المستثمرون الاقتصادات الناشئة مقترضين سياديين أكثر خطرا من الاقتصادات الغنية، وذلك بسبب تاريخهم من عدم استقرار الاقتصاد الكلي وحالات السداد الأكثر عن السداد. إلا أن أكبر الاقتصادات الناشئة في وضع مالي أفضل حاليا من نظرائها الأغنياء، ومن المتوقع أن تتسع هذه الفجوة. وقد بلغت نسبة الدين العام للدول الأعضاء الناشئة في مجموعة العشرين 38 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2007. وتشير دراسة صندوق النقد الدولي إلى أنه من المحتمل أن تنخفض هذه النسبة إلى 35 في المائة بحلول عام 2014، أي أقل من متوسطها في العالم الغني بنسبة الثلث. ونتيجة لذلك، من المرجح أن تضيق الفجوة بين العوائد التي يطلبها المستثمرون من سندات الاقتصادات الغنية والناشئة.

قياس ضغوط السوق

يتضح عدم اليقين إزاء كل هذا في أسواق السندات (وبصورة متقلبة نوعا ما أيضا في أسعار مقايضات التخلف عن سداد الديون السيادية). وعلى الرغم من انخفاض العائدات بشكل عام، إلا أن الأسعار متقلبة. وفي وقت سابق من هذا العام، تركزت مخاوف الأسواق على الأعضاء الأضعف في منطقة اليورو، خاصة اليونان، أيرلندا، البرتغال، وإسبانيا. وفي منتصف آذار (مارس)، بلغت العائدات على السندات الحكومية اليونانية والأيرلندية 6 في المائة، أي تقريبا ضعف النسبة على السندات الألمانية. ومن دون عملاتها، لا يمكن لتلك الدول زيادة التضخم من جانب واحد للتخلص من ديونها، لذا يكمن الخوف في احتمالية التخلف عن السداد المتزايدة. وقد خفضت وكالات التصنيف الائتمانية الكبرى درجة ديون جميع الدول الأربعة. وتم تخفيض درجة أيرلندا مرة أخرى من قبل وكالة Standard & Poor's في الثامن من حزيران (يونيو).
وفي الآونة الأخيرة، تولي الأسواق اهتماما متزايدا بأمريكا وبريطانيا. فقد كانت توقعات Standard & Poor's سلبية بالنسبة لتصنيف AAA لبريطانيا الشهر الماضي. وارتفعت عائدات سندات الخزانة الأمريكية بصورة حادة. وفي العاشر من حزيران (يونيو)، اقترب العائد على السندات لمدة عشر سنوات إلى نسبة 4 في المائة، في حين لم يكن في نهاية العام الماضي أكثر بكثير من 2 في المائة. وينسب بن برنانكي، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي، بعض هذه الزيادة إلى المخاوف المتعلقة بمستقبل أمريكا المالي. ولكنه يعتقد أن كثيرا من هذه الزيادة ناتجة عن انحسار حالة الذعر التي أدت إلى اندفاع المستثمرين لشراء السندات الحكومية في العام الماضي. وهذا أمر محتمل، وذلك لأن ارتفاع العوائد السيادية تزامن مع انخفاض الهوامش على الديون الأكثر خطورة، مثل سندات الشركات التي تم تخفيض درجتها.
وعدم اليقين هذا الذي يشعر به المستثمرون ليس مستغربا. ولقياس قدرة واستعداد الحكومات لتحمل أعباء الديون، عليهم تطبيق كلا من القوانين الحسابية والحسابات السياسية والاقتصادية الأقل دقة. ومن الناحية الحسابية، يكون عبء الديون الحكومية مستداما إذا كانت الحكومة قادرة على دفع الفائدة دون اقتراض مزيد من المال. وبغير ذلك، ستقع الحكومة في النهاية في شرك الديون، حيث ستقترض المزيد لخدمة ديونها السابقة. ولكن من الناحية العملية، فإن مجرد إحداث الاستقرار في نسب الديون على مستوى أعلى قد يكون كافيا، لأن الدين العام الفائض يزاحم الاستثمار الخاص ويخفض النمو على المدى الأطول. والهدف الأفضل هو التخلص من الزيادات الكبيرة في الديون. ويعتمد مدى صعوبة ذلك على حجم الديون وسرعة نمو الاقتصاد وسعر الفائدة الذي يجب أن تدفعه الحكومة.
لنفترض مثلا أن إجمالي الدين العام لدولة ما هو 100 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي. فإذا نما الاقتصاد بنسبة 4 في المائة بالقيمة الاسمية وبلغت أسعار الفائدة طويلة الأجل 5 في المائة، ستحتاج الحكومة إلى فائض أولي في الميزانية - أي قبل مدفوعات الفائدة- بنسبة 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للحفاظ على نسبة ديونها دون تغيير. والتخلص من زيادة بنسبة عشر نقاط مئوية في نسبة الدين على مدى عشر سنوات يتطلب نقطة مئوية إضافية على الفائض الأولي.
وتشير الحسابات إلى أن الزيادة المتوقعة بنسبة 36 نقطة في المديونية بين الأعوام 2007 و 2014 لا ينبغي أن تكون مصيبة في حد ذاتها. وتعني أيضا أن الدول التي دخلت الأزمة المالية بأعباء متواضعة أمامها مجال أكبر للمناورة من تلك التي كانت غارقة في الديون. وقد بدأت بعض الدول الأشد تضررا، مثل أيرلندا وإسبانيا، بنسب ديون منخفضة، ما جعل التخلف عن السداد غير مرجح إلى حد بعيد، على الأقل على المدى القصير. إلا أن إيطاليا واليابان كانتا غارقتين منذ البداية. ودخلت أمريكا الأزمة بإجمالي ديون تزيد نسبته قليلا على 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وكانت نسبة ألمانيا مماثلة لنسبة أمريكا، في حين كانت نسبة بريطانيا أقل قليلا.
ويعد إجمالي الديون مقياسا جيدا لمطالب القطاع العام من الأسواق المالية، بما أنه يشمل جميع الأوراق الحكومية المعلقة. وهو المقياس الذي تم استخدامه في دراسة صندوق النقد الدولي. ولكنه لا يعطي صورة كاملة. فبعض الدول تشمل وعود الدفع الحكومية الداخلية في أرقامها: أمريكا مثلا تحسب السندات الموجودة في خطة المعاشات التقاعدية الحكومية. ولأن دولا أخرى لا تفعل ذلك، فإن هذا مبالغة لإجمالي الدين النسبي لأمريكا. ويفضل صنّاع السياسة في واشنطن النظر في "الديون التي يملكها الشعب"، التي تستثني وعود الدفع الداخلية المكتوبة. وهذه تضع أمريكا تحت ضوء أفضل، بما أنها بلغت 37 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2007.
وعلى الرغم من أن إجمالي الدين أفضل دليل على الالتزامات المالية للحكومات، فإن صافي الدين، الذي يطرح قيمة أصولها، مؤشر أفضل لجدارتها الائتمانية. وقد يكون الاختلاف هائلا فقد كان إجمالي الدين في النرويج قريبا من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2007، ولكن بفضل صندوق ثروتها السيادية القائم على أساس النفط كان صافي الفائض يبلغ نحو 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وبما أن الحكومة اليابانية تسيطر على أصول واسعة، خاصة بنك Japan Post، فإن صافي ديونها، البالغ 86 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أقل بكثير من إجمالي ديونها. وقد تتسع الفجوة كثيرا بعد الأزمات المالية. وحين تتولى الحكومة مسؤولية البنوك الفاشلة، يزيد إجمالي ديونها، ولكن لأن الأصول المصاحبة لها قيمة فإن صافي الديون يرتفع بنسبة أقل بكثير. ومقارنة صافي الدين عبر الدول أصعب من مقارنة إجمالي الدين، لأنه من الصعب تقدير قيمة الأصول الحكومية. ومع ذلك، فإن تصنيف أعباء الاقتصادات الغنية الكبرى، والزيادات المحتملة لها، هو نفسه تقريبا وفقا لكلا المقياسين.
إضافة إلى ذلك، يجب أن تأخذ الحسابات المتعلقة باستدامة الديون بعين الاعتبار أكثر من مجرد حجمها نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. وكقاعدة عامة، فإن الدول التي تصدر الديون بعملتها الخاصة إلى مواطنيها أقل عرضة للخطر من تلك التي تضطر إلى بيع السندات بالعملات الأجنبية أو تلك التي تعتمد بصورة كبيرة على المقرضين الأجانب. وغالبا ما واجهت الاقتصادات الناشئة، التي تقترض عادة من الخارج، أزمات في أعباء ديونها تقل عن 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وتموّل اليابان، التي تملك مجموعة كبيرة من المدخرات المحلية الخاصة، عبء ديون أكبر بثلاثة أضعاف تقريبا من هذا بسهولة - وبسعر زهيد. وقد أدى الضعف الاقتصادي المستمر إلى تخفيض العائدات على سندات الحكومة اليابانية من 7 في المائة عام 1990 إلى أقل من 2 في المائة.
وفي هذا بعض العزاء للدول الغنية التي تعاني ارتفاع أعباء الديون - خاصة أمريكا، لأن الدولار هو عملة الاحتياط العالمية. ومن المفترض أيضا أن تؤدي زيادة المدخرات الخاصة بعد الأزمة المالية إلى تخفيض تكلفة الاقتراض. ومع ذلك، تعتمد أمريكا، مثل بريطانيا وعديد من الدول الأخرى ولكن على عكس اليابان، على المستثمرين الأجانب، الذين قد يتبين أنهم أقل استعدادا لتمويل عبء ديون أكبر بكثير. وفي الماضي، أدى العبء الأكبر في أمريكا إلى ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل بصورة طفيفة. وتشير إحدى الدراسات التي يتم الاستشهاد بها كثيرا إلى أن الارتفاع بنسبة عشر نقاط مئوية في نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي تزيد عائدات السندات طويلة الأجل بنسبة ثلث نقطة مئوية. ولكن إذا أصبح عبء الدين في أمريكا أكبر بكثير، قد يتغير هذا. وتشير الدراسات من أوروبا القارية إلى أن تكلفة أسعار الفائدة الإضافية ترتفع مع المديونية.
ويساعد رصيد الميزانية أيضا، الذي يدل على حكمة السياسة المالية على أساس سنوي، في تحديد مدى ضعف الحكومة. وأداء اقتصادات منطقة اليورو وفقا لهذا المقياس جيد نسبيا فقد دخلت ألمانيا الأزمة مثلا بفائض أولي، فيما كانت كل من بريطانيا وأمريكا تعانيان حالات عجز.

من الاقتصاد في النفقات إلى التبذير

ومما يؤسف له أنه تبين أن بعض الدول التي كان يبدو أنها في وضع جيد، مثل أيرلندا وإسبانيا، تعتمد بصورة مفرطة على إيرادات أسعار العقارات المرتفعة وبالتالي شهدت انهيار قواعدها الضريبية. وتشير تقديرات الخبراء الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي إلى أنه بحلول عام 2014، من المحتمل أن يتجاوز إجمالي الدين العام لأيرلندا 120 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يلغي جميع المكاسب التي تم تحقيقها خلال العقدين الماضيين، في حين سيظل العجز الأولي عند نسبة 6.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفي بريطانيا، التي اعتمدت على الضرائب من الأصول المالية والعقارات، من المحتمل أن يكون العجز المالي أعلى من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2014، وهو أحد أعلى المعدلات بين الاقتصادات الغنية الكبرى في العالم.
وكل هذا مخيف بما فيه الكفاية. ولكن لفهم الصورة كاملة للمهمة التي تواجهها الحكومات، يجب أن يتم إضافة الضغوط الديموغرافية إلى الأضرار المرتبطة بالأزمة. ووفقا لهذا ستكون جميع الاقتصادات الغنية الكبرى في العالم في ورطة، إلا أن بعضها في وضع أسوأ من بعضها الآخر- ما يعني ضمنا أنها ستضطر إلى إدارة فوائض ميزانية أولية أكبر. والقيمة الحالية للزيادة في التزامات الميزانية المستقبلية المتعلقة بالعمر في أمريكا أكبر بخمسة أضعاف من ناتجها المحلي الإجمالي. وهي أكبر بنسبة ثلاثة أضعاف تقريبا في بريطانيا.
ولتقدير مدى الألم المستقبلي، جمع الخبراء الاقتصاديون في صندوق النقد الدولي كل هذه العناصر معا، وافترضوا أن أسعار الفائدة طويلة الأجل تتجاوز معدلات النمو الاقتصادي بواقع نسبة مئوية واحدة (وهو المتوسط طويل الأجل قبل الأزمة) ثم حسبوا مدى الزيادة في أرصدة الميزانية الأولية اللازمة لتكون نسبة إجمالي الديون عند مستوى مستدام. ويحدد الاقتصاديون هذا المستوى عند 60 في المائة أو، بالنسبة لليابان، نصف الرقم الحالي (أي 85 في المائة). وتشير النتائج التي توصلوا إليها إلى أن على أيرلندا واليابان القيام بمعظم العمل فكلتاهما ستحتاجان إلى تعزيز الأرصدة الأولية بنسبة تزيد على 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بما هو متوقع لعام 2014. وستحتاج بريطانيا إلى زيادة قريبة من 6 في المائة. وتبلغ الفجوة في أمريكا 3.5 في المائة وفي ألمانيا أقل بقليل من 2 في المائة.
وهذه التوقعات قاتمة وكئيبة. وقد أضرت الأزمة المالية بصورة كبيرة بالمالية العامة في عدد غير قليل من الدول. وأدت في دول أخرى إلى تسريع التدهور المزمن المرتبط بالعمر. والألم المالي قصير الأجل في كل مكان أصغر بكثير من الفوضى طويلة الأجل التي تلوح في الأفق. وما لم يتم تخفيض الإنفاق بصورة كبيرة، من المؤكد أن ترتفع أسعار الفائدة الحقيقية، وكذلك علاوات المخاطر على كثير من الديون الحكومية. وسيعاني النمو الاقتصادي في حين ستزيد احتمالات حدوث أزمات في الديون السيادية.
وينبغي للحكومات بطريقة ما تجنب هذه الكارثة دون قتل الانتعاش عن طريق تشديد السياسة في وقت سابق لأوانه. وقد ارتكبت اليابان هذا الخطأ حين دفعت المخاوف المتعلقة بتنامي ديونها العامة حكومتها إلى زيادة ضريبة الاستهلاك عام 1997، ما ساعد على إعادة الاقتصاد إلى حالة الركود. إلا أن عدم فعل شيء قد يكون له التأثير نفسه أيضا، لأن مخاوف المستثمرين المتعلقة بالاستدامة المالية ستزيد عائدات السندات، ما قد يخنق الانتعاش أيضا.
وأفضل طريقة للخروج هي معالجة تكاليف الشيخوخة مباشرة عن طريق زيادة عمر التقاعد مثلا. ومن شأن ذلك تحسين التوقعات المالية متوسطة الأجل دون الإضرار بالطلب الآن. وبشكل عام، ينبغي تفضيل تخفيضات الإنفاق على زيادات الضرائب. وبدلا من رفع معدلات الضرائب، من الأفضل للحكومات تحسين القوانين الضريبية، بحيث توسع القاعدة وتعالج الثغرات المشوهة (مثل المعاملة التفضيلية للإسكان). وتختلف الأولويات الأخرى من دولة لأخرى. ولكن بعد حفلة الاقتراض الحالية، لم يعد عدم فعل شيء خيارا يمكن اتخاذه.

الأكثر قراءة