محظوظة للمرة الثالثة
ظل الجمهور لفترة طويلة ينظر إلى التكنولوجيا الحيوية بأنها تعني تدخلا خطيرا في الموروثات الجينية للمحاصيل الغذائية. إلا أن التكنولوجيا الحيوية تتعلق بالطبع بأكثر من مجرد الأطعمة المعدلة وراثيا: فهي تشمل أيضا استخدام الميكروبات لتصنيع الأدوية مثلا. وللأسف، طغت المخاطر المفترضة للموجة الثانية من التكنولوجيا الحيوية في الزراعة على الفوائد العديدة للموجة الأولى من المنتجات التكنولوجية الحيوية في الطب. فهل ستسهم الموجة الثالثة - التي تسمى التكنولوجيا الحيوية الصناعية، وتعرف أيضا باسم "التكنولوجيا الحيوية البيضاء" أو "الكيمياء الخضراء" - في حل مشكلة التكنولوجيا الحيوية؟
وكما هو الحال مع أشكال أخرى من التكنولوجيا الحيوية، تشمل التكنولوجيا الحيوية الصناعية هندسة الجزيئات والميكروبات البيولوجية بخصائص جيدة مرغوب فيها. والمختلف هنا هو كيفية استخدامها بعد ذلك: استبدال العمليات الكيميائية بعمليات بيولوجية. وسواء كان ذلك لإنتاج مواد كيميائية لعمليات أخرى أو إيجاد منتجات مثل البوليميرات البيولوجية بخصائص جديدة، فإن هناك مجالا كبيرا جدا للاستفادة من البيولوجيا لإنجاز ما كان يحتاج سابقا إلى مصانع كيميائية كبيرة وقذرة، ولكن بطرق أنظف وأكثر صداقة للبيئة.
وقد بلغت مبيعات المنتجات التكنولوجية الحيوية الصناعية نحو 140 مليار دولار عام 2007، وتم إنتاج 6 في المائة من جميع المواد الكيميائية بمساعدة التكنولوجيا الحيوية، كما يقول Jens Riese من شركة ماكينزي الاستشارية. ويقول Steen Riisgaard، الرئيس التنفيذي لشركة Novozymes للتكنولوجيا الحيوية، إنه يتصور مستقبلا تكون فيه المصانع الحيوية منتشرة في المناطق الريفية لإنتاج وقود ومواد كيميائية أخرى من الكتلة الحيوية مثل النفايات الزراعية.
وإحدى الشركات التي تعمل في مجال التكنولوجيا الحيوية الصناعية منذ سنوات هي DSM، في Heerlen في هولندا. وفي التسعينيات بدأت بصنع إنزيمات للجبنة وأحماض أوميغا-6 الدهنية لحليب الأطفال، وطورت عملية بيولوجية لإنتاج cephalosporin، وهو مضاد حيوي، بطريقة أنظف من العمليات الكيميائية المستخدمة لتصنيع الدواء. وأحدث جهودها هو إيجاد طريقة بيولوجية لإنتاج مادة كيميائية تسمى succinic acid (C4 H6 O4)، المستخدمة في تصنيع مجموعة واسعة من المنتجات، بما في ذلك spandex وهو بوليميرات للزراعة، وأملاح إزالة الجليد، والاسترات، والراتنجات ومنظمات الحموضة في الطعام.
وتتضمن العملية الكيميائية المعتادة تصنيع succinic acid من النفط الخام أو الغاز الطبيعي. ويستند النهج البيولوجي لشركة DSM إلى التخمير باستخدام إنزيمات وميكروبات معدلة جينيا. وبعد مرحلة تجريبية ناجحة للإنتاج، تتمثل الخطوة التالية في إنشاء مصنع في Lestrem في فرنسا، الذي سيبدأ العمل بحلول نهاية العام. ولو سارت الأمور على ما يرام، سيتبع ذلك عملية تجارية أكبر بكثير. وتقول الشركة إنها بالإضافة إلى تصنيع succinic acid من النشا المستمد بيولوجيا، بدلا من الوقود الأحفوري، تستخدم عمليتها طاقة أقل بنسبة 40 في المائة أيضا وتنتج انبعاثات أقل لثاني أكسيد الكربون.
وقد ركزت Novozymes، كما يوحي اسمها، على تزويد إنزيمات محسنة - جزيئات بيولوجية تساعد على جعل ردود الفعل تحدث بشكل أسرع، أو بدرجات حرارة أقل. ويبدو هذا تافها، ولكنه يمكن أن يحدث فرقا بين العملية التجارية وغير التجارية. وتقول الشركة إنها تملك 47 في المائة من سوق الإنزيمات الصناعية، المستخدمة في مجالات مثل المنظفات والتخمير والخبز أو لإنتاج أعلاف حيوانية.
إن الإنزيمات هي الأداة الأولى المفضلة في التكنولوجيا الحيوية البيضاء إذا كانت عملية التحويل الكيميائي بسيطة إلى حد ما. ولكن إذا كان هناك حاجة إلى سلسلة أكثر تعقيدا من ردود الفعل، أو إذا كان الإنزيم في العملية مستخدما خلال التحويل ويحتاج إلى إعادة توليده، يجب استخدام ميكروب. ويمكن للميكروبات أن تنجز مئات المهام الكيميائية في الوقت نفسه، وهي قادرة على إعادة إيجاد الإنزيمات التي تحتاج إليها. وتعمل Novozymes على عملية بيولوجية لتصنيع acrylic acid (C3 H4 O2) من النشا أو الكتلة الحيوية بدلا من الوقود الأحفوري. ويتم استخدام الإنزيمات المحسنة في إحدى المراحل، ويتم تنفيذ مرحلة أخرى عن طريق هندسة الميكروبات.
وينطوي إيجاد ميكروب مناسب على البدء بميكروب يقوم بجزء من المهمة المعنية، ثم إقناع الميكروب بالتخصص في ذلك النشاط. (وجدت DSM ميكروبها، وهو الخميرة، يعيش في روث الفيل، حيث يكسر السيلولوز في النشا؛ وبدأت Novozymes بميكروب من مجموعة كبيرة من الميكروبات) والمرحلة التالية هي القضاء على الأشياء التي يقوم بها الميكروب، والتي لا ترتبط بالمهمة المعنية عن طريق تعطيل المورثات الجينية غير الضرورية. ومن ثم يتم إنتاج الميكروبات المعدلة بأعداد كبيرة ويتم اختيار الميكروبات التي تقوم بالمهمة على أفضل وجه. وتكون النتيجة جرثومة معدّلة خصيصا لتقوم بمهمة معينة.
وتقول Novozymes إنها شارفت على استكمال عملية acrylic acid. ويتم استخدام نحو 40 في المائة من acrylic acid الذي يتم إنتاجه لتصنيع مادة ماصة مثل تلك الموجودة في حفاظات الأطفال؛ ويتم استخدام معظم النسبة المتبقية في الدهانات ومواد الطلاء. وتقول Novozymes إن عملياتها ستكون تنافسية مع الطرق الكيميائية بسعر نفط عند 60 دولارا للبرميل أو أعلى. وبالنظر إلى الحجم الكبير لسوق acrylic acid ونموه الثابت (بنسبة 4 في المائة سنويا)، فإن Novozymes واثقة بأن عمليتها ستحصل على حصة كبيرة.
ومؤيدو التكنولوجيا الحيوية الصناعية متفائلون بأنهم يستطيعون تجنب المزالق التي أعاقت تبني المحاصل التكنولوجية الحيوية، التي تم انتقادها من قبل معارضيها ووصفها بأنها أطعمة غير طبيعية توسع نطاق سيطرة الشركات لتشمل الزراعة. ولكن على عكس الطماطم المعدلة جينيا مثلا، فإن المنتجات التكنولوجية الحيوية الصناعية لا تباع مباشرة للمستهلكين. وبدلا من إزاحة المنتجات "الطبيعية" واستبدالها ببدائل مهندسة بيولوجيا، كما هو الحال في الزراعة، تتخلص التكنولوجيا الحيوية الصناعية عموما من الوقود الأحفوري والعمليات الكيميائية المرتبطة به وتستبدلها ببدائل بيولوجية صديقة للبيئة. ولا شك أنه من المفترض أن يسهل هذا إقناع الناس بفوائدها، وبالتالي تصحيح الفكرة عن التكنولوجيا الحيوية على نطاق أوسع.
وإحدى المشكلات هي أنه على الرغم من أنه قد لا يتم اشتقاق المواد الخام المستخدمة في التكنولوجيا الحيوية الصناعية من الوقود الأحفوري، إلا أنها قد تثير مع ذلك أسئلة أخلاقية صعبة. وعلى وجه الخصوص، فإن استخدام محاصيل غذائية مثل الذرة كمواد خام لتصنيع الوقود الحيوية يثير بالفعل جدلا كبيرا بسبب تأثيره على أسعار الأغذية. ويثير حتى زراعة محاصيل غير غذائية لاستخدامها في أغراض صناعية الكثير من المشكلات، لأنه قد يقلل من الأراضي المتوافرة لإنتاج الغذاء.
إلا أن استخدام النفايات الزراعية أقل إثارة للجدل. ويعتقد Riisgaard أن تحويل النفايات الزراعية إلى مواد كيميائية أخرى (بما في ذلك الوقود) باستخدام التكنولوجيا الحيوية الصناعية قد يستبدل بـ 20 إلى 25 في المائة من استهلاك النفط العالمي. وهناك الكثير من النفايات التي يمكن استخدامها. ويشير أيضا إلى أنه يمكن زراعة المواد الخام على أراض هامشية لا تصلح لإنتاج الغذاء. وهذا صحيح، ولكن قد يكون له تداعيات على التنوع الحيوي. ولعل النهج الواعد بالنسبة لمؤيدي الموجة الثالثة من التكنولوجيا الحيوية هو التأكيد على احتمالية إنشاء صناعة مواد كيميائية جديدة صديقة للبيئة لإيجاد الوظائف في مناطق ريفية نائية.