أن تكون حياتنا جزءا من قصة عظيمة..

يعيش الإنسان عمرا قصيرا جدا، تمضي سنواته بسرعة، ولا يكاد يضع قدميه خارج سنوات الطفولة التي تمضي كالسراب حتى يرى نفسه وقد أبيض شعره، منتظرا الخريف وتساقط أوراق الشجر.
البعض يرون أن خير استغلال لسنوات العمر هو في جمع المال الذي يمكنهم لاحقا من تحقيق أسباب السعادة المادية والأمان من قسوة الزمن، لكن نفوس معظم الناس تميل في أعماقها لأن يكون لحياتها بعد معنوي أجمل من البعد السطحي المادي أو من الحياة الروتينية التي لا تعني شيئا. أرواحنا دائما تتطلع – علمنا أم لم نعلم- لقصة أسمى من مجرد حياة البحث عن لقمة العيش، وتشرئب لعلها يوما تستطيع أن تخرج من قيودها ليصبح لها معنى أجمل وأرقى.
هذا المعنى يتم تحقيقه عادة في عصرنا هذا من خلال الحياة العملية، أي من خلال المؤسسة التي نعمل فيها، ولذا فإن إحدى أهم طرق تقييم المؤسسات (سواء كانت حكومية أم خاصة، صغيرة أم كبيرة) هو مدى قدرتها على إيجاد "قيم" للمؤسسة بحيث يعتنقها مديرو تلك المؤسسة والعاملون فيها. من هذا المنطلق، إذا كانت القيمة تقديم "خدمة" مميزة للجمهور في أمر يحتاج إليه الناس، فإن شعور الموظفين بأنهم يقدمون خدمة مهمة للناس في أمر يحتاجون إليه في حياتهم اليومية، أو شعورهم أنهم يؤثرون في حياة الناس بشكل إيجابي (كما يحصل في المؤسسات التعليمية) يفترض أن يعطيهم شعورا معنويا إيجابيا يسهم في تلك السعادة النفسية بما يحققه الإنسان كل يوم.
من هنا جاء مصطلح مهم في العلوم الإنسانية وهو السعادة في العملJob Satisfaction، وهذا المصطلح لقي الكثير من الاهتمام من الغربيين، واهتماما ضعيفا ومخجلا من العرب (على الصعيدين النظري والعملي)، وهو يتحقق للإنسان بطرق عديدة تجعله يشعر بأنه جزء من المؤسسة ومن قيمها الإيجابية، ويشعر من خلالها أن لحياته معنى، وأن جهوده لا تهدف فقط لتحقيق المال بل لإضافة شيء للمجتمع. هذا البعد المهم في نجاح المؤسسات نتج عنه كثير من التطبيقات الإدارية مثل "المسؤولية الاجتماعية للشركة" CSR التي تبرهن الشركة من خلال هذه الأنشطة غير الربحية على أنها ليست مجرد آلة لتحقيق الربح، بل هي أبعد من ذلك.
لقد برع اليابانيون في تحقيق هذه المعاني بشكل جعل من المؤسسة اليابانية مدرسة مذهلة، وهذا ما يفسر ولاء اليابانيين "شبه الخرافي" لمؤسساتهم، وساهم في نمو النهضة اليابانية وتفوقها عالميا.
عدم توافر هذا النوع من السعادة في الحياة العملية هو طريق أكيد – حسبما تؤكد مئات الدراسات - للمعاناة النفسية والظواهر السلبية في المجتمع والفساد في المؤسسات. عندما يقتنع الموظفون أن مؤسستهم هي مجرد وسيلة لملاكها لجمع المال دون أن تكون لهم أهداف ذات معنى، فهم غالبا يميلون لكراهية مكان العمل، والتهرب منه، ومحاولة جمع المال منه بأي طريقة (ما لم يوجد الرادع الأخلاقي الذاتي القوي)، ويسهم على المدى البعيد في انهيار المجتمع، عندما تكون هناك نسبة كبيرة من المؤسسات الحكومية أو الخاصة التي ينتشر فيها التسيب وعدم الولاء للمؤسسة وقيمها والفساد بأشكاله.
لهذا أيضا، تواجه المرأة التي لا تعمل (وهناك نسبة من النساء العاطلات عن العمل أعلى من الرجال في كثير من دول العالم) شعورا نفسيا سلبيا يؤدي بها في النهاية لظواهر ينتقدها الناس دون أن يعرفوا أسبابها مثل ميلان المرأة للتسوق والاهتمام بالتوافه، إلا إذا استطاعت المرأة أن تحقق سعادتها وارتياحها النفسي من خدمتها لأسرتها أو من خلال أنشطة شخصية أخرى.
العمل في مؤسسات ناجحة ليس الطريقة الوحيدة لتحقيق السعادة العملية، هناك طرق أخرى، مثل المشاريع الصغيرة الريادية التي تقوم على فكرة إبداعية، ومثل العمل الثقافي والخيري، وأحيانا يؤدي البحث عن السعادة العملية والشعور المعنوي بأن الإنسان له امتداد مهم في حياته – حسبما تقول الدراسات - إلى ظواهر مدمرة مثل انتماء الإنسان للجماعة الإرهابية أو العصابة الإجرامية أو حتى أساليب الهرب من الحياة مثل المخدرات.
إذا جاءك شخص يشكو من ظروف عمله، فإن الإجابة بأنه "ما دمت تحصل على راتبك فأنت بخير" هي إجابة رغم أنها منطقية إلا أنها ليست صحيحة، لأن الإنسان في أغلب الأحيان يبحث عن شيء أكثر من الراتب، يبحث عن قيمة لنفسه يشعر من خلالها أن له دورا يقدمه في خضم الحياة اللامتناهي.
أكثر البشر لا يمكنهم أن يكونوا عظماء بسبب قصر العمر والإمكانات المحدودة ولأن الحياة لا تتحمل الكثير من العظماء، ولكن معظم الناس يسعون لأن يكونوا جزءا من قصة عظيمة في حياتهم، جزءا من مجد يروى من حولهم، جزءا من حلم بشري كبير، جزءا من نهضة وطن يبحث عن القمم، أو جزءا من تحقيق سعادة إنسانية.
وللحديث بقية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي