دروس من الأزمة
تظهر لنا الأفلام ووسائل الإعلام حالة من الجمال والرخاء تسود حياة الأمريكيين. ومن منا لم يشاهد تلك الفيلات الجميلة بأحواض السباحة والحدائق الغنّاء الرائعة البديعة والتي يقف عند جانب منها عدد من السيارات الفارهة، وفي أجوائها تصدح الطيور وتغني لحن الرخاء فضلا عن الفاتنات الجميلات المتأنقات، مما يملأ عين المحبين بهجة والكارهين حسدا.
هذه هي القشرة أما الجوهر فيختلف. ذلك أن عمليات الطرد من العمل شائعة ومعتادة في هذه الأرجاء، حيث مبدأ Hired until Fired أي أنت تحت طائلة مدفع الفصل في أي وقت، وهنا تقع الكارثة؟ كيف ستدفع الأقساط التي تكبل المواطن الأمريكي؟ كيف يواكب الحياة في مجتمع استهلاكي شرس؟ النتيجة وخيمة، حالات الانتحار ناهيك عن التمزق الأسري وتشَرذم الأفراد وإصابتهم بالفردية الكاملة.
وقد حملت الأزمة الاقتصادية الحالية العديد من المآسي. فقد نسينا أنه إلى جوار كل بيت أنيق لوحة معبرة كتب عليها عبارة "ملكية بنك" أي أن ساكنها ضيف وليس صاحب بيت وهي عبارة تذكرني بزميل الدراسة الفنان الراحل "الضيف أحمد" فعندما كان الأستاذ يسأله "أنت الضيف؟" كان يرد "لا - أنا صحاب البيت". أي أن روعة البيت وبهاءه تضاءلت أمام وقع ما كتب على اللوحة، عندما عجز المقيم أن يسدد أقساطه. حدثت المصادرة، وتحول المواطن الأنيق إلى متشرد وهذه عاقبة المقترضين.
وهنا يتذكر أساتذة تهميش دور الحكومة أهمية الحكومة باعتبارها الملجأ والمنقذ والملاذ، وبدأت أصوات تتصاعد: أين الحكومة من نفقات التعليم الخاص الباهظة؟ أين دورها في حماية صحة المواطن من خلال نظام إداري يكفل تأمين الصحة؟ أين دورها في صيانة المرافق بعيدا عن سيل الإسهامات والضرائب التي يتكبدها المواطن؟
إن الشراسة الاستهلاكية التي عاشتها الولايات المتحدة وصدرت عائدها إلى كافة دول العالم ومنها دولنا بكل أسف هي المسمار الذي يدقونه في نعش حياتنا. وكلما وجدت نموا هائلا لمحال الأطعمة الجاهزة والرواج في ارتداء الجينز والتسمر أمام التلفزيون بصحبة أكياس الشيبس والبوب كورن ارتعدت فرائصي وتملكني الرعب على مستقبل بلادنا، خاصة أن منها دولاً كثيرة هشة العود ضعيفة البنية الاقتصادية، لا تتحمل تقليد الأمريكيين في أنماطهم الاستهلاكية خاصة أننا بعيدون كل البعد عن قدراتهم الإنتاجية ودأبهم وعشقهم لعملهم.
نتابع الآن مقالات في صحف أمريكية تتحدث عن أمور كانت بالنسبة لهم في عداد الكفر والمروق. مثل تدخل الدولة في شؤون الأفراد الذين يثبت عجزهم عن إدارة شؤونهم المالية. أي أن تعين الحكومة وصيا على السفهاء وعاشقي الإنفاق والذين نشأوا وترعرعوا في إطار مجتمع يحض على الاستهلاك والشراء. ويطالبون الحكومة بوضع أسقف للاقتراض بحيث لا يؤدي الإخلال بالدفع إلى تدمير الأسرة كما ظهر من تفاصيل الأزمة.
والمتابع لمسيرة الإنسان عبر التاريخ يعرف أنه بين حقبة وأخرى يضطر البشر إلى تغيير أنماط سلوكية انزرعت بداخلهم حتى أصبحت أقرب للعقيدة، وتحت مطرقة الحاجة يتغير الإنسان وتتغير الفلسفات والنظريات الاقتصادية، وقد تناوبت أفكار متباينة الهيمنة على البشر لتنظيم حياته فظهرت مراحل الإقطاع عندما كانت الزراعة هي النشاط الأكبر والرأسمالية الصناعية بعد الانقلاب الصناعي، ثم الأفكار الاشتراكية والشيوعية ثم اللبرالية التي ظن الكثيرون أنها المنهج الغربي، ثم ثبت أنها لن تصلح بعدما وصلت بها التجارب إلى الحالة التي نراها.
كان الأمريكي يقول دائما:
"من أجل دولار إضافي أنتقل من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق".
ولكن ما يبدو في الأفق أن مرحلة زمنية قد ألقت سدولها (كما يقول امرؤ القيس) على الأمريكيين بألوان الهموم لتبتلي. وأصبحت الأولوية هي دخول الحكومة والأثرياء لإنقاذ الفقراء الذين ينتظرون الوجبات المجانية كما انتظرت طوابير الدول الأوروبية في صفوف طويلة أمام مطاعم الحساء (الشوربة). ونتمنى أن تنجح الحكومة في إطعام هؤلاء والكف عن المغامرات وتصدير الفائض من الفكر الاستهلاكي في طرد واحد من الشعارات الجوفاء.