قانون تقليم الأفكار وتقليم الأشجار
في مدينة مراكش وقف الأخ (المجذوبي) وهو يلوح بيده بكتابي القديم (في النقد الذاتي) ثم قال:
لم يصدر لك كتاب بعده؟
والرجل عذرته لعدم متابعته ما أكتب، فقد صدر لي أكثر من ثلاثين كتابا بعده؛ وهناك ثلاثون أخرى جاهزة!
ولكن أجبته باختصار: إن ديكارت يقول عن نفسه، إنه بعد أن كتب كتابه في المقال على المنهج قضى بقية حياته في تطبيق هذا المنهج، فأنا أحاول ترسيم وتوسيع هذا الطريق السريع الذي فتحته للنقد الذاتي، فلا يكفي مخطط طريق، بل لا بد من بنائه!
وفي يوم سأل شخص جودت سعيد عن أولاده فأجاب يكبرون! كان قصد الأول أولاد البيولوجيا، وجودت سعيد الأفكار، وأنا أعتبر طباعة كل كتاب ابنا جديدا لي، وفي هذا العام رزقت بطفلين نجيبين من هذا النوع، وأحرص على الإنجاب كل سنة نصف درزن من هذه الذرية الطيبة!
وهكذا فيجب دوما تطوير الأفكار وتنميتها، وإعادة النظر فيها وتمريرها بفلترة العقل النقدي، فالعلم ينمو بالحذف والإضافة، وكذلك الأفكار.
نحن نعلم أن الشجرة كائن حي، وكذلك الأفكار فهي كائنات حية، وأهم ميزة على الإطلاق في التمييز بين الحي والميت هي التكاثر، وكذلك الأفكار فهي تنمو وتتكاثر.
والله وصف الكلمة الطيبة بأنها تشبه الشجرة الطيبة تنتج ثمراتها كل حين بإذن ربها، كما وصف الرب الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة.
وهذا يعني أن الكلمة الطيبة تتكاثر وتكبر، فتصبح شجرة تأوي إليها الطيور، وتعطي ثمراتها في كل حين بإذن ربها.
وكذلك فإن الكلمة الخبيثة تتكاثر وتصبح شجرة، ولكن مصير الشجرتين مختلف؛ فالكلمة الطيبة تدوم، ونهاية الكلمة الخبيثة اجتثاث من فوق الأرض ما لها من قرار.
وهذا يفسر ظهور كثير من الأفكار الشريرة وانتشارها، مثل الأمراض المدمرة والأوبئة القاتلة. هكذا ظهرت الفاشية والنازية والبعثية والناصرية والماسونية والبلشفية والبابية.
وقديما كان ينتشر الطاعون فيحصد نصف أهل المدن ثم ينصرف؛ فلا يعلم أحد من أين جاء ولماذا ذهب؟ وأمراض الأفكار هكذا مثلما حصل مع فكر الخوارج، الذي يحصد من حين لآخر مثل طواعين العصور الوسطى.
والأمراض تنتشر بوحدات خاصة، وكذلك الأمراض الاجتماعية. و"الوحدات الإمراضية" في أمراض الجسم هي الجراثيم والفيروسات، والوحدات الإمراضية في الأمراض الاجتماعية هي "الأفكار".
ومرض الكوليرا خلفه ضمات الهيضة، ومرض السل سببه عصيات السل، ومرض العنف خلفه جراثيم "الكراهية والتعصب".
وكما كان لأمراض البدن تظاهرات من "أعراض" و"علامات" و"سير" وسيرة، و"وحدات إمراضية" و"وسائل تشخيصية" و"علاج" و"إنذار Prognosis"، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية.
ولكن بكل أسف لم يتطور "الطب الاجتماعي" بقدر تطور الطب العضوي البدني.
والكائن الحي يتصف بالتكاثر، والصخرة جماد لا يتكاثر. والفيروس هو حلقة الوصل وجسر العبور بين الحياة والموت؛ فهو يتبلور مثل الملح، وهو يتكاثر مثل الخلايا.
وأخطر الفيروسات ما يتسلل إلى الكود الوراثي في نواة الخلية؛ كما هو الحال في الأنظمة الشمولية التي يتسرب إلى أجهزة الأمن فيها شرار الخلق؛ فيدمرونها ولو بعد حين. وكما كان تقليم الشجر مفيدا فيدفع الحياة في اتجاه جديد، كذلك الحال في تقليم الأفكار. وأفكارنا تكبر مثل أولادنا. والفكرة الجيدة تنمو مثل الكائن الحي دوما بالتقليم والتشذيب.
وأنا أعكف منذ عشرات السنوات على بعض الأفكار؛ فأعيد صقلها كل مرة لأجدها زادت تألقا وبهاء ونموا. ومنها فكرة اللاعنف حيث اكتشف كل يوم أنها ليست مجرد أفكار، بل عالم كامل لوحده، وجغرافيا مختلفة، وكوكب ينزل الفكر على سطحه بإحداثيات كونية مختلفة، مثل الضغط والحرارة وتوزع الغازات.
والفكرة الجيدة يجب أن يعني بها الإنسان؛ فيعيد اختبارها وصمودها، وهي رحلة لا نهاية لها.
وسبحان الحي الذي لا يموت فتوكل عليه.