في أغمات عند قبر المعتمد واعتماد
منذ خمس وعشرين سنة وأنا أمني النفس بزيارة قبر المعتمد بن عباد في أغمات، وهي قرية تبعد عشرين كيلومترا جنوب مراكش، في ضريح معزول، بعد أن قرأت موسوعة عبد الله عنان، عن التاريخ الأندلسي في سبعة مجلدات، قرأته بتمعن ولذة على مدى ستة أشهر حتى استوعبت تلك الفترة التاريخية المليئة بالأسى والانحطاط لقدر الأندلس، كذلك صعود دول وقوى جديدة مثل العثمانيين، والله وارث الأرض ومن عليها.
وبقدر ما كانت الموسوعة شيقة في ملء الثغرة المعرفية عندي حول التاريخ الأندلسي، وعلاقتها بحروب الاسترداد الإسبانية، وتاريخ الشمال الإفريقي، ونهضة دول عظيمة مثل المرابطين والموحدين، كذلك كانت قصة موت ملك إشبيلية (المعتمد) وزوجته وأم أطفاله التي تسمت تيمنا باسمه (اعتماد) حزينا أسيفا.
كنت مدعوا إلى مؤتمر في مراكش في أيار (مايو) 2009م، ترعاه جمعية (حضن) حول الاستقرار الأسري، فانتهزت فرصة قربي من أغمات مثوى الحبيبين المعتمد واعتماد، وذهبت لهناك بعد طول انتظار، وهي نصيحة مزدوجة لكل من يقرأ مقالتي مرتين، أن يزور المغرب الجميل النظيف الأنيق ذا الطبيعة الساحرة، المرتخي عند شاطئ الأطلسي، دون عسكرة وخندقة، ونصيحتي أن يزور قبر الثلاثة (اعتماد) و(المعتمد) وقبر ثمرة الحب بينهما ولدهما (الربيع).
وقف المرشد يقرأ لي عند حافة القبور الثلاثة وأنا أغالب دمعة طفر من عيني فلم أستطع لها إمساكا؛ قال انظر إلى هذا الشعر، إن مقدمة حروف أبياته تجتمع فتشكل كلمة اعتماد، فهل هناك حب أعظم بين هذين الإنسانين!
أغائبة الشخص عن ناظري وحاضرة في صميم الفـؤاد
عليك السلام بقدر المــسجون ودمع الشؤون وقدر السهاد
تملكت مني صعب المــــرام وصادفت ودي سهل القيــاد
مرادي لقياك في كل حيــــن فياليت أني أعطى مـــرادي
أقيمي على العهد بيننــــــــا ولا تستحيل لطول البعــــاد دسست اسمك الحلو في طي شعري وألفت فيه حروف اعتمـــــاد
(تأمل الكلمات الأولى من الأبيات؟ أغائبة + عليك + تملكت + مرادي + أقيمي + دسست) فمن مجموع بداية الكلمات تتراكب من الحروف اسم اعتماد التي يحبها!
وهناك وقفت أنا على قبرهما أبكي بخشوع، وأقرأ بالخط المغربي الأبيات الأخيرة التي سطرها وأكاد لا أتبين الأحرف بين دموعي؛ وهي تنساب كموج نهر يتلوى ليموت في لجة المحيط..
علل فؤادك قد أبل عليـــــــــــــل واغنم حياتك فالبقاء قليــــــل
لو أن عمرك ألف عام كامــــــــل ما كان حقا أن يقال طويـــــل
أكذا يقود بك الأسى نحو الــردى والعود عود والشمول شمول
بالعقل تزدحم الهموم على الحشا فالعقل عندي أن تزول العقول
كاد الرجل أن يفقد عقله بعد أن فقد كل العز والملك وأصبح سجينا وحيدا يقتات على الذكريات! إنها لحظات تقترب بصاحبها من الجنون، كما حصل مع جون ناتش ذا العقل الجميل!
فماذا هذا الكون الذي دلفنا إليه وما هذه المسرحية التي نمثلها؟
بكيت وبكيت وتذكرت ليلى وقلت: نعم فالبقاء قليل حقا! ولو عمر أحدنا ألف عام!
لم يا ابن تاشفين عاملته هذا المعاملة؟ لم تركنا بلادنا العزيزة وخسرنا الوطن من دون صهاينة؟ ما معنى المرض العربي السرطاني؟
لم تجعلنا نبكي كلما تذكرنا هذا الإنسان الكريم؟ لم الذل لهامة كبيرة؟ لم الحبوس والسجون والفلق؟ أليس بإمكان العرب أن يتفاهموا دون أن يذلوا بعضهم بعضا ويطحنوا بعضهم بعضا؟
ألم يكن بالإمكان أن ينتهي بشكل أفضل؟ هل كتب في قدر تاريخنا أن نمر على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع؟
ثم مررنا في مراكش بجنب قبر ابن تاشفين الذي بالكاد تتبينه، ولكنني أمسكت دموعي من جديد، وقلت غفر الله لكما فأنتما اليوم بعد الموت عند ربكما تختصمان، ثم التفت إلى نفسي ولملمت ثيابي في برد مراكش وقلت ليرحمنا الله جميعا.