وراء التحدي .. هناك جهود دبلوماسية جدية
يزمجر عمر البشير بغضب في وجه الغرب لأنه يريد محاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب في محكمة دولية. إلا أن الجهود الدبلوماسية تشتد حدة وراء الكواليس.
بعد شهرين من إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في منطقة دارفور الغربية في السودان يبدو أنه في وضع جيد فقد ظل مصرا على عدم الاعتذار عن موت نحو 300 ألف من مواطنيه. وفي اليوم الذي تم الإعلان فيه عن لائحة الاتهام، طرد 13 وكالة مساعدات غربية كانت تحاول الإبقاء على شعب دارفور المشرد، البالغ عددهم 2.7 مليون، على قيد الحياة. ولا يزال يواصل تنديده بالمحكمة واصفا إياها بأنها أداة للنزعة الاستعمارية الغربية الجديدة. وقد ذهب في رحلات عامة إلى دول مجاورة صديقة، مثل مصر وإثيوبيا. وتم الترحيب به بوصفه بطلا في قمة الجامعة العربية المكونة من 22 دولة في قطر، التي تعتبر حليفة للغرب. باختصار، أثبت البشير أن نفوذ قانون المحكمة الجنائية الدولية ضئيل بصورة محرجة.
إلا أن الأمور أكثر تعقيدا وأقل قابلية للتنبؤ وأقل سهولة بالنسبة للبشير تحت السطح الظاهري. وقد كان كثيرون يتوقعون أن تهاجم الحكومة أعداءها، الحقيقيين أو الوهميين، بصورة أكثر شراسة. ولكنها لم تفعل ذلك بعد تهديداتها الفارغة التي أصدرتها في البداية. وفي الحقيقة، تضرر حكام السودان بسبب الاتهام. ونتيجة لذلك، يحاولون من جديد اكتساب ود الغرب والحكومات الأبعد بشأن مجموعة من القضايا، على أمل إقناع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الطلب من المحكمة الجنائية الدولية تأجيل لائحة الاتهام، وهو يملك السلطة لفعل ذلك، لمدة عام متواصل. وعلى الرغم من لهجة التحدي في خطابات الحكومة السودانية وطرد وكالات المساعدات، إلا أنها غيرت رأيها سرا فيما يتعلق بعدة نقاط. ويمكنها أن تغير موقفها من جديد، كما فعلت في السابق. ولكن من الواضح أنها ليست ثابتة على موقفها.
فمثلا، بعد شهر من طرد وكالات المساعدات، أعلنت الحكومة السودانية أنها ستفي بوعدها بإجراء انتخابات عامة، وإن كان في وقت لاحق من الموعد المتوقع، في شباط (فبراير) 2010. وبموجب اتفاق السلام الشامل، الذي تم توقيعه عام 2005 مع المتمردين السابقين في الجنوب الذين يحاربون من أجل الحصول على الحكم الذاتي أو الانفصال في معظم أوقات العقود الأربعة الماضية، كان من المفترض أن يتم إجراء انتخابات عامة هذا العام. وتوقع بعض السياسيين المعارضين أن يلغي البشير، بدافع الغضب بسبب لائحة الاتهام، اتفاق السلام الشامل الذي توسطت فيه أمريكا وأن ينتهك وعده بإجراء انتخابات. إلا أن رفضه فعل ذلك يوحي بعدم رغبته في تدمير جميع الجسور الدبلوماسية مع الغرب.
وإذا سارت الأمور بشكل جيد، ستكون الانتخابات هي الأولى التي يتم إجراؤها بصورة ديمقراطية تماما منذ عام 1986، قبل ثلاث سنوات من وصول البشير إلى السلطة بعد الانقلاب. ولا يزال هناك عديد من المخاطر، خاصة تجميع سجل ناخبين يمكن للجميع الاتفاق عليه. ولكن على افتراض إجراء الانتخابات، قد يخسر البشير وحزبه، حزب المؤتمر الوطني، الرئاسة لمصلحة سيلفا كير، المرشح المحتمل وزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، مجموعة المتمردين السابقة في الجنوب.
وهناك أيضا بصيص من الأمل فيما يتعلق بدارفور نفسها فبعد إصدار الاتهامات، أوقفت حكومة البشير وإحدى أكبر مجموعات التمرد في دارفور، هي حركة العدل والمساواة، المفاوضات التي كانت قد بدأت للتو، للمرة الأولى منذ سنوات، في العاصمة القطرية، الدوحة. ولكن تم أخيرا استئناف تلك المحادثات. وكان سيكون من الأفضل أن تشارك جميع فصائل التمرد المختلفة في دارفور. إلا أن التفاوض مع المجموعة الأفضل تسلحا أفضل من لا شيء.
وتزايدت الآمال بالتوصل إلى نتيجة ناجحة في الثالث من أيار (مايو)، حين اتفقت حكومتا السودان وتشاد، جارتها من الغرب، على تطبيع العلاقات بعد المحادثات التي توسطت فيها قطر وليبيا. ولطالما حاولت حكومة تشاد إثارة المشاكل في دارفور عن طريق تسليح ودعم حركة العدل والمساواة.
ويشجع Scott Gration، المبعوث الأمريكي الجديد إلى السودان، وهو جنرال نشط سابق في القوة الجوية، هذه الموجة الدبلوماسية، وهو يقدم المشورة لباراك أوباما فيما يتعلق بالشؤون الإفريقية منذ عدة سنوات. وقد تم تعيين Gration، على عكس سلفيه، بوصفه مبعوثا متفرغا، مما يؤكد حرص أوباما على المساعدة على إقامة السلام في دارفور. وقد ولد Gration في الكونغو لوالدين تبشيريين، وهو يتحدث اللغة السواحيلية ويعرف المنطقة جيدا.
والأهم من ذلك أن الحكومة السودانية لا تزال تتوق إلى إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع أمريكا وترغب بشدة أن يتم شطب اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب لوزارة الخارجية الأمريكية. وهذه أكبر قوة يملكها الغرب لإقناع البشير بإنهاء حملته العسكرية في دارفور والوفاء بالتزاماته بموجب اتفاق السلام الشامل، مثل إجراء الانتخابات.
وهناك أمل أيضا في مبادرة الجماعات المدنية في دارفور، المدعومة من مؤسسة تم إنشاؤها في لندن من قبل Mo Ibrahim، أحد كبار رجال الأعمال البريطانيين في مجال الهواتف المحمولة الذي ينحدر من أصول سودانية. ومن المتوقع أن يجتمع نحو 350 من أهل دارفور في الثاني عشر من أيار (مايو) في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، لمدة خمسة أيام من المحادثات الرامية إلى إنتاج ما يسمونه "ولاية دارفور". ومن المفترض أن تحدد هذه الولاية ما يرغب الدارفوريون بأن يتم شمله في أي اتفاق سلام مع الحكومة السودانية في الخرطوم. ويوفر الاجتماع فرصة للدارفوريين غير الأطراف للالتفاف حول مواقف عشرات الجماعات المتمردة المنقسمة التي لا تمثل غالبا إلا نفسها وتحاول دائما زرع الشقاق.
وقد لا تؤدي كل هذه المبادرات إلى شيء. فقد كان السودان ميالا منذ فترة طويلة للتقسيم والصراع. ولم تكد تشاد توقع آخر اتفاق لها مع السودان حتى اتهمت جيش البشير بشن هجوم عبر الحدود، الأمر الذي ينفيه السودانيون. وللسبب نفسه، لم تكن حركة العدل والمساواة راغبة في حضور الاجتماع في قطر، إلا أن Gration أقنعها بحضوره.
ومنذ مطلع العام، كان القتال بين القوات الحكومية والمتمردين، وبين القبائل والفصائل المتمردة في الغرب المدمر، غير منتظم. وإمدادات المواد الغذائية والأدوية التي تركتها وكالات المساعدات وراءها على وشك النفاد. إلا أن الناس يتحدثون على الأقل. وبدأت الحكومة السودانية العنيدة بالتنازل بعض الشيء، على الرغم من- أو ربما بسبب- لائحة الاتهام المثيرة للجدل التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية.