نظام هرمي جديد

نظام هرمي جديد

فوق سطح الأرض بـ 60 مترا (نحو 200 قدم) في بلدة Beauvais في منطقة Picardy، تظهر الحوافز المالية على الطريقة الفرنسية، حيث يقوم الحرفيون الجالسون على سقالات عالية بإصلاح الواجهة المتضررة للكاتدرائية القوطية الشاهقة التي تأسست في القرن الرابع عشر، وذلك باستخدام فرش الرسم وأجهزة الرش بالرمل. وأعمال الترميم هذه التي تكلف مليوني يورو (2.7 مليون دولار) هي أحد المشاريع البالغ عددها ألف مشروع والتي وضعتها الحكومة الفرنسية في إطار خطة الحوافز البالغة 26 مليار يورو. وتفخر فرنسا، إضافة إلى المخططات التقليدية، مثل تحديث الطرق والموانئ وشبكة قطارات TGV فائقة السرعة، بمشاريع ترميم مجموعة من الكاتدرائيات والكنائس التاريخية.

ويقوم الفرنسيون بالأمور بطريقة مختلفة، حتى خلال الأزمات. فعلى الرغم من نداءات الأمريكيين لبذل مزيد من الجهود لزيادة الطلب الاستهلاكي، إلا أن خطة الحوافز الخاصة بهم تعتمد بصورة كبيرة على الاستثمارات المركزة في البنية التحتية، بما في ذلك الكاتدرائيات، تماشيا مع تقاليدهم المرتكزة إلى الاقتصاد الموجه من قبل السلطة المركزية. ومن الشائع في أوروبا القارية أن تكون الدولة خيرية وتفرض ضرائب ثقيلة وفيها كثير من القوانين والحماية. إلا أن هذا كله يبرز بأوضح أشكاله في فرنسا، حيث يمتد إلى بناء الطرق والقنوات والمعالم الصناعية الضخمة تحت إشراف Jean-Baptiste Colbert، وزير المالية والصناعة في عهد لويس الرابع عشر.

وفي السنوات الأخيرة، قبل الانهيار المالي، تعرض ما هو معروف بوصفه النموذج الفرنسي لانتقادات قاسية، خاصة بسبب فشله في إنتاج ما يكفي من النمو أو فرص العمل. ولم يكن منتقدوه من الأنجلو ساكسونيين فقط، بل أيضا نيكولا ساركوزي نفسه. ولعله يشتهر الآن بالإعلان عن نهاية رأسمالية الاقتصاد الحر، إلا أن أحد أسباب انتخابه رئيسا لفرنسا هو قوله إن النموذج الفرنسي يحتضر، والإشادة بالنموذجين البريطاني والأمريكي.

وقبل ساركوزي، كشفت سلسلة من التقارير التي كلفت الحكومة كتابتها، التي تم إعدادها من قبل أشخاص مثل Michel Camdessus، المدير الإداري السابق لصندوق النقد الدولي، وMichel Peberau، رئيس بنك BNP Paribas، أوجه القصور وتكاليف النظام. وكان الإنفاق العام في فرنسا يمثل 52 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2007، بعد النسبة في بريطانيا البالغة 45 في المائة وفي أمريكا البالغة 37 في المائة. إلا أن معدلها السنوي في الأعوام 1997-2007 كان أدنى من المتوسط في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

ولا شك أن الاقتصاد الفرنسي تضرر جراء الركود العالمي مثل غيره من الاقتصادات. فقد بدأت الشركات بتخفيض الإنتاج وتقليل الوظائف. وبلغت نسبة البطالة 8.6 في المائة في شباط (فبراير). ويتم تنظيم مسيرات حاشدة بين الحين والآخر في جميع أنحاء فرنسا احتجاجا على تخفيض الوظائف. والأخطر من ذلك أن هناك موجة من "احتجاز المديرين" وهو نوع من أنواع الاختطاف يتم فيه احتجاز المديرين في مكاتبهم من قبل الموظفين طوال الليل.

إلا أن الاقتصاد الفرنسي تضرر بصورة أقل من عديد من الاقتصادات. ومن المتوقع أن يتقلص ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 3 في المائة هذا العام، وفقا لصندوق النقد الدولي، مقارنة بنسبة 4.1 في المائة في بريطانيا، و4.4 في المائة في إيطاليا و5.6 في المائة في ألمانيا. وهي أقل اعتمادا على الصادرات من ألمانيا، وارتفع الإنفاق الاستهلاكي في الربع الأول من عام 2009 من الفترة نفسها العام الماضي. ويتوقع أن تعاني الحكومة، التي كثيرا ما يتم انتقادها بسبب إسرافها، من عجز عام 2009 (6.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) أقل من العجز في أمريكا (13.6 في المائة) وبريطانيا (9.8 في المائة).

إن الفرنسيين يدخرون كثيرا من المال ومعظمهم لم يأخذ قروضا عقارية كبيرة أو ينفق بكثرة على الائتمان. وديون الأسر كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي أقل من نصف النسبة في بريطانيا أو أمريكا. ولعل احتمالية تأميم البنوك ترعب الأمريكيين خوفا من أن يتحولوا إلى فرنسيين. وفي الواقع، لم تضطر الحكومة الفرنسية بعد إلى إنقاذ أي بنك فرنسي كبير من الانهيار، ناهيك عن تأميم أحد البنوك. وعلى الرغم من انتشار الغضب بشأن العلاوات في الشركات التي تسرّح العمال، إلا أن رواتب المديرين في فرنسا ليست مسرفة، كما أن فجوة الدخل بين أعلى 10 في المائة وأدنى 10 في المائة أصغر بكثير منها في بريطانيا أو أمريكا.

وفي الواقع، يراقب الفرنسيون بمزيج من مشاعر التسلية والرضا الذاتي الأنجلو ساكسونيين الذين بدأوا يبدون بصورة متزايدة مثل الفرنسيين. فباراك أوباما يقول إنه يريد أن يزيد المستهلكون ادخارهم ويقللون إنفاقهم، لتحقيق أرباح فعلية بدلا من أرباح ورقية قصيرة الأجل ولإعادة توزيع مزيد من الثروات ولتوفير الرعاية الصحية للجميع. وحين وصل إلى ستراسبورغ في شرق فرنسا، وهي بلدة تم ربطها بباريس الآن بواسطة قطار TGV ويمكن الوصول إليها خلال ساعتين تقريبا، تساءل بحسد: "لماذا ليس لدينا قطار فائق السرعة؟" ونشرت مجلة Time مقالا بعنوان "كيف أصبحنا الولايات المتحدة الفرنسية". ونشرت مجلة Newsweek مقالا جاء فيه أن "النموذج الأخير في فرنسا". وحين ظهرت كريستين لاغارد، وزيرة المالية الفرنسية، أخيرا في البرنامج الكوميدي الأمريكي، The Daily Show، الذي يقدمه جون ستيوارت، قالت مازحة: "ربما بدأتم التحرك باتجاهنا".

وفي بريطانيا، أعلن غوردن براون – مثل ساركوزي - أن "زمن الاقتصاد الحر قد ولّى". وطالب قادة الأعمال بريطانيا بوضع سياسة صناعية سليمة والتوقف عن الاعتماد على سراب التمويل. وكتب Howard Davies، رئيس كلية لندن للاقتصاد، يثني على "الدروس الفرنسية حول دور الدولة الجديد. وحتى Peter Mandelson، المفوض التجاري الأوروبي السابق الذي يعتبره الفرنسيون بمثابة الكاهن الأكبر لليبرالية الاقتصادية، فقد حضر أخيرا إلى باريس لمعرفة مزيد عما يسميه النشاط الصناعي. وقال في تعريف التخطيط الاستراتيجي الفرنسي طويل الأجل في قطاعات مثل الطاقة والنقل: "هناك الكثير لنتعلمه من ممارسات أوروبا القارية".

ومثل هذا الكلام يرضي غرور الفرنسيين. فقد أشاد ساركوزي بقمة مجموعة العشرين في لندن بوصفها نهاية النموذج الرأسمالي للأنجلو ساكسونيين. وكتبت صحيفة Le Monde اليومية البارزة: "لقد وجد النموذج الفرنسي في هذه الأزمة، والذي تم رفضه في السابق، التأييد مرة أخرى".

الكرواسون وإطارات السيارات

ولكن وراء الشروط اللينة والرسوم الكاريكاتورية، مم يتكون النموذج الفرنسي بالضبط؟ وهل هو ناجح؟ وفي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة تحقيق التوازن الصحيح بين السوق والدولة، هل تمكن الفرنسيون من تحقيق هذا التوازن في النهاية؟

لقد تضررت منطقة Picardy المنخفضة الواقعة شمال فرنسا جراء الركود العالمي مثل أي منطقة غيرها. وفي الآونة الأخيرة، حطّم العمال في شركة Continental لتصنيع الإطارات مبنى إداريا يضم المحاكم التي أيدت قرار إغلاق مصنع في Clairoix، الذي تسبب في فقدان 1.120 وظيفة - ضربة موجعة للموظفين الذين وافقوا على العمل لأسبوع أطول مقابل وعد بالإبقاء على الموقع. وفي بلدة Beauvais القريبة، أغلقت Bosch مصنعها العام الماضي، ما تسبب في فقدان 40 شخصا لوظائفهم. وهناك مخاوف الآن بشأن مستقبل مصنع الأسفنج في البلدة.

ولكن حين يحل وقت الغداء في أيام الربيع الدافئة، تمتلئ جميع الطاولات في المقاهي الموجودة على الأرصفة في وسط المدينة، بالقرب من الكاتدرائية المحاطة بالسقالات. وتملأ الأزهار أحواض البلدية بصورة مرتبة ومنسقة. ويكون موقف السيارات في السوق المركزية المحلية المجاورة مليئا بالسيارات. ولا تزال حركة المرور في المطار منخفض التكلفة، الذي يوظف أعدادا كبيرة، مزدحمة. ولا تزال مصانع الإلكترونيات والعطور المحلية صامدة. وتقول Caroline Cayeux، رئيسة البلدية اليمينية: "هذه ليست بلدة غنية إلا أن النظام الاجتماعي الفرنسي يمكّن الناس من البقاء رغم الصعوبات المالية".

وتظهر Beauvais، العاصمة الإدارية، التأثير الملطف للنموذج الفرنسي في فترة الركود، والتزامه القوي بروح المساواة. فمن جهة، يسود الخوف على نطاق واسع من فقدان الوظائف. ومن جهة أخرى، هناك شعور بأن الاقتصاد مدعوم حتى في الأوقات السيئة بالقطاع العام ونظام الرعاية الاجتماعية. ويعيش 43 في المائة من سكان البلدة في مساكن اجتماعية مستأجرة بأسعار مدعومة. والبلدية نفسها توظف الكثير من الناس. فهناك 130 مزارعا مثلا يعملون في رعاية أحواض الأزهار والحفر والتعشيب والزرع. كما توزع جميع أشكال المساعدة المباشرة للعائلات، مثل قسائم عطل الأطفال أو الأنشطة بعد الدوام المدرسي. وابتكرت أيضا خطة خاصة لـ 4.500 "عامل فقير" غير مشمولين بشبكات أمان وطنية أخرى للرعاية الاجتماعية.

وفي جميع أنحاء فرنسا، هناك 5.2 مليون عامل، أو 21 في المائة من الذين لديهم وظائف، موظفون من قبل القطاع العام. ودون احتساب أولئك الذين لا تتعرض دخولهم ولا وظائفهم للدورة الاقتصادية، فإن 49 في المائة من أولئك العاملين أو المتقاعدين معرضون بصورة معتدلة فقط لخطر الركود، وذلك وفقا لشركة Xerfi الاستشارية. أضف إلى هذا طبقات من الحماية الاجتماعية، بما في ذلك استحقاقات البطالة التي قد تصل إلى 75 في المائة من الراتب السابق، ومجموعة من المدفوعات المباشرة للعائلات، مثل 889.72 يورو للمواليد الجدد، وستجد أن الفرنسيين بمأمن نسبيا من فترات انكماش الأسواق.

علاوة على ذلك، فإن النظام الصحي في فرنسا، وهو مزيج من الإمدادات من القطاعين الخاص والعام، قادر على ضمان تغطية شاملة وإنتاج سكان أصحاء نسبيا بنصف التكلفة للشخص الواحد للنظام في أمريكا، وبقوائم انتظار أقصر عن النظام الأرخص إلى حد ما في بريطانيا. ومتوسط العمر المتوقع لدى الفرنسيين أعلى منه لدى البريطانيين والأمريكيين. ومن خلال بحوث الحالة المالية، تغطي الدولة أولئك الذين غير مشمولين بالتأمين الخاص اللازم لاستكمال المخطط العام.

وتقول لاغارد إن كل "محققات الاستقرار" هذه تساعد على دعم الطلب ويجب احتسابها جزءا من رزمة الحوافز المالية. وفي الواقع، تلقت وزارة المالية أخيرا العديد من الزيارات من مسؤولين من حكومات أخرى مهتمين بالنظام الفرنسي. وتعلق لاغارد بالقول: "الفرق هو أن النظام الفرنسي يوفر واقيات للصدمة كانت موجودة بالفعل. ولم نضطر إلى إعادة ابتكار أنظمة البطالة أو الصحة أو الرعاية الاجتماعية".

وإحدى السمات الرئيسية للنموذج الفرنسي هي دور الدولة بوصفها مزودا، يخفف على المواطنين الصدمات ويعيد توزيع الثروة ويدعم الطلب في الأوقات الصعبة. إلا أن لديها وظيفتين إضافيتين: التخطيط والتنظيم.

شبح Colbert

تقع وزارة المالية الفرنسية في هيكل حديث واسع يبرز على أعمدة ممتدة في نهر السين في شمال باريس. وتستخدم وزيرة المالية أيضا فندق Hôtel de Seignelay، وهو فندق أنيق بجانب النهر في قلب العاصمة الأنيقة. وخارج مكتب الوزيرة المغطى بالباركيه، يبرز تمثال لـ Colbert، الذي كان حفيده يعيش في المنزل. وقد ساعد تخطيط الدولة في عهد Colbert على إعادة بناء فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، ما حقق النمو الاقتصادي لفترة 30 عاما بعد الحرب. وحتى وقت قريب، كانت "لجنة التخطيط" الرسمية، المسؤولة عن الخطط الاستراتيجية لمدة أربع سنوات، لا تزال تعمل. وعلى الرغم أنه لم يعد هناك وجود الآن للهيئة الرسمية، إلا أن روحها ظلت قائمة، مثل التمثال.

إن التخطيط طويل الأجل للبنية التحتية العامة هو أفضل مثال على المجالات التي يحقق فيها النجاح. فليس من المقرر أن يتم افتتاح أول خط سريع للقطارات تحت الأرض عبر المدينة في لندن، مثل Crossrail، حتى عام 2017، إلا أن باريس تفتخر بشبكة من خمسة خطوط للنقل السريع، التي تم إطلاقها لأول مرة في أواخر الستينيات. وأخيرا، كشف ساركوزي النقاب عن أحدث خطوة: مشروع لمدة عشر سنوات لبناء حلقة مترو مؤتمتة في جميع أنحاء ضواحي المدينة، تربط بين المطارات الرئيسية. ولا تزال شبكة قطارات TGV في فرنسا، التي تم وضع أول مساراتها عام 1974، في عهد جورج بومبيدو، تواصل انتشارها. وتكاليف البناء كبيرة جدا، حيث تم فصل الديوان الآن إلى هيئة منفصلة لشبكات سكك الحديد. ولكن بما أن متوسط سرعة القطارات تبلغ 300 كم في الساعة (190 ميل في الساعة)، فهي توفر بديلا عمليا وصديقا للبيئة للسفر الجوي والبري. ويستخدم الكثير من رجال الأعمال قطارات TGV في رحلاتهم اليومية بين المدن الفرنسية الكبرى.

وخذ مثلا الصناعة النووية. فقد قررت الحكومة الفرنسية دفع القوة النووية في السبعينيات، استجابة لصدمة النفط وافتقار الدولة إلى الوقود الأحفوري. وتولد الطاقة النووية الآن 78 في المائة من الكهرباء في فرنسا، وتعتبر الدولة مصدرة صافية للكهرباء. ولديها شركتان من أبرز شركات الطاقة العالمية، هما EDF وAreva. وفرنسا اليوم هي الرائدة في مجال بناء مصنع طاقة مضاد للصواريخ وللزلازل، هو EPR، ومن المتوقع أن تتبنى دول أخرى نفس التصميم.

ولا يتعلق مثل هذا التخطيط الاستراتيجي الفرنسي بالرؤية بعيدة المدى والبنية التحتية فقط، بل أيضا بوضع سلسلة التزويد اللازمة لتحقيق ذلك. وقد قامت الدولة الفرنسية إما بإنشاء شركات (EDF، Areva) أو أنقذت شركات خاصة مضطربة (Alstom، مصنعة قطارات TGV) من أجل الحفاظ على جانب العرض. ويمتد مثل هذا التخطيط أيضا ليشمل التعليم. ففرنسا تملك مؤسسات تعليم ممتازة في مجال الهندسة والأعمال والإدارة العامة، والتي تعرف باسم المدارس الكبرى، والتي تخرج نخبة ماهرة تقنيا لإدارة مثل هذه الشركات. وليس من قبيل المصادفة أن يكون مدير EDF (Pierre Gadonneix) ومدير Alstom (Patrick Kron) ومديرة Areva (Anne Lauvergeon) من خريجي مثل هذه المدارس الكبرى في مجال العلوم أو الهندسة.

وتمتد الرغبة في السيطرة، التي تشكل أساس النموذج الفرنسي، إلى الوظيفة الثالثة للدولة أيضا، وهي التنظيم. فالفرنسيون رواد في مجال وضع القواعد. وهناك قواعد حول عدد الصيدليات التي يمكن لصيدلي واحد امتلاكها (صيدلية واحدة)، وعدد سيارات الأجرة التي يجب أن تسير في شوارع باريس (15.300). وهناك قواعد حول وقت استخدام الشاحنات للطرق (ليس في أيام الأحد)، أو الوقت الذي يمكن فيه للمتاجر إجراء تنزيلات (مرتين سنويا، في مواعيد يحددها المسؤولون). وقد تم الترحيب بالقوانين الجديدة التي تسمح للمتاجر باختيار أسبوعين آخرين بحرية ووصفها بأنها ثورية. وكتبت صحيفة Le Parisien: "لم يسبق أن سمعنا بإجراء تخفيضات في نيسان (أبريل) دون انتظار تنزيلات حزيران (يونيو)!" وبعض هذه القواعد يبدو سخيفا. ولكن في القطاع المالي، كانت النزعة التنظيمية لفرنسا مفيدة لها في الأزمة الحالية.

وربما تكون البنوك الفرنسية خسرت الكثير من المال، ولكن لا شك أن أداءها كان أفضل من نظرائها البريطانيين أو الأمريكيين، ولا تزال معظمها تحقق الأرباح. وأحد أسباب ذلك هو التنظيم الأشد صرامة. خذ مثلا سوق القروض العقارية. فقد كانت البنوك الفرنسية أشد حذرا بكثير بشأن الإقراض لمشتري المنازل. وفي عام 2007، كانت ديون القروض العقارية في فرنسا تمثل 35 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لاتحاد القروض العقارية الأوروبي، أي أقل منها في ألمانيا (48 في المائة) وأقل بكثير من اقتصادات بريطانيا (86 في المائة) وأيرلندا (75 في المائة) وإسبانيا (62 في المائة)، وهي الاقتصادات التي تكونت فيها فقاعات إسكانية. وارتفعت أسعار المنازل الفرنسية بصورة حادة. إلا أن بنك فرنسا يقول إنها ارتفعت بهذه النسبة بسبب النمو الديموغرافي، والدخل الحقيقي المتاح الأعلى، والمعروض المحدود من المنازل على نحو عمليات الشراء بالمضاربة.

ومن الصعب قياس إلى أي حد يعود كل هذا للتنظيم. ويعتقد أحد كبار المسؤولين الفرنسيين أن الجواب هو أن نصفها بفضل ممارسة الإقراض الحذر، ونصفها بفضل القواعد الأشد صرامة. وتطبق فرنسا قواعد أكثر صرامة على رسملة البنوك مما تمليه المعايير الدولية. وتوصي هيئة التنظيم أيضا ألا تقدم البنوك قروضا تمثل فيها دفعات الفائدة أكثر من ثلث دخل المقترض. والبنوك ملزمة قانونيا بعدم دفع المقترضين لاقتراض ديون أكثر, ما يمكنهم سدادها، كما يتم رفع دعاوى بشكل منتظم في المحكمة. لذا فإن الحذر جزء لا يتجزأ من النظام.

والآن لنر الوجه الآخر

إذا كان النموذج الفرنسي وفر بشكل عام الحماية لأفراده من التجاوزات التي شجع عليها الائتمان، وأبقى الطلب منتعشا ومستويات التفاوت تحت السيطرة، وأنتج مباني مزدهرة وأحواض أزهار رائعة، فهل يعني هذا أن النموذج ناجح؟ أو ما الوجه الآخر له؟ يكمن الجواب في أداء الاقتصاد الكلي المخيب للآمال بصورة عامة، الذي يتسم بانخفاض النمو وارتفاع معدل البطالة، والذي يمكن تفسيره بالوجه الآخر لكل من الأدوار الثلاثة التي يعينها النموذج الفرنسي للدولة.

أولا، باعتبار الحكومة مزودة، فهي تفرض ضرائب على أصحاب العمل والموظفين ومساهمات كبيرة في الضمان الاجتماعي لدفع تكاليف الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية, بحيث إنها تعوق الشركات عن إيجاد الوظائف في المقام الأول. وأحد أسباب كون العمال الفرنسيين أكثر إنتاجية في الساعة الواحدة من الأمريكيين هو أن الشركات توظف عددا قليلا منهم. وتستخدم الكثير منها بشكل واسع مثل المتدربين المتناوبين والموظفين المؤقتين. ويقول مدير أحد مطاعم الوجبات السريعة إنه يزود نفس المطاعم في فرنسا بموظفين تبلغ نسبتهم الثلثين مقارنة بالأعداد التي يتم توظيفها في بريطانيا. وقد تكون نسبة البطالة في فرنسا الآن (8.6 في المائة) مماثلة للنسبة في أمريكا (8.5 في المائة)، ولكنها، على عكس أمريكا، لا تتدنى أبدا عن نسبة 8 في المائة حتى في الأوقات الجيدة.

والنتيجة هي سوق عمالة مقسمة. فمن جهة، هناك وظائف دائمة لائقة، محمية باتفاقيات على مستوى الصناعة تم التفاوض عليها من قبل نقابات العمال. ومن جهة أخرى، هناك وظائف قصيرة الأجل غير محمية- أو لا توجد وظائف على الإطلاق. ويتم استبعاد الشباب بشكل خاص: تبلغ نسبة البطالة بين الشباب تحت سن الخامسة والعشرين 21 في المائة. وتبلغ النسبة ضعف هذا الرقم في بعض مشاريع الإسكان في الضواحي التي يسكنها المسلمون والمهاجرون.

تعاني الدولة عيوبا في مجال التخطيط أيضا فقد تطورت السياسة الصناعية الفرنسية، ولم تعد تتعلق فقط بالطائرات الكبيرة والقطارات والسيارات. وهناك مثلا ائتمان ضريبي سخي للأبحاث الجديدة للشركات، يهدف إلى التشجيع على الابتكار في الصناعة خاصة في قطاعات التكنولوجيا العالية. وهناك نظام جديد "للمبادرة الذاتية في الأعمال" لتشجيع العمل الحر تتم إدارته على أساس "ليس هناك ضرائب حين لا يتم تحقيق أرباح"، وقد اجتذب 145.000 شخص منذ أن تم إطلاقه في كانون الثاني (يناير)، بصورة فاقت التوقعات الرسمية. وصرحت لاغارد بالقول: "إن أي شخص يقول إن الفرنسيين لا يريدون سوى موظفي خدمة مدنية وليس رجال أعمال مبادرين لم يفهم النظام."

ولكن كما يشير أحد كبار المسؤولين الفرنسيين فإن ثقافة الهندسة في عهد Colbert أفضل بكثير بشكل عام في مجال ابتكار وإدارة المشاريع المخططة الكبيرة منها في مجال التعامل مع الأفكار من أسفل إلى أعلى والأسواق الغامضة. وتفتقر فرنسا إلى وجود شركات جديدة، وتعاني شركاتها الصغيرة صعوبة في النمو. ولم يتم تأسيس أي من كبرى الشركات المدرجة في بورصة باريس خلال الخمسين عاما الماضية. علاوة على ذلك، فإن سجل السياسة القديمة باختيار الشركات الوطنية مختلط في أفضل الأحوال فقد تكون شركات النقل والمرافق العامة شيئا واحدا. وفي قطاعات أخرى، تشمل أجهزة الكمبيوتر (تذكر Groupe Bull) أو القطاع المصرفي (تذكر Credit Lyonnais تحت ملكية الدولة)، كان ذلك كارثة. وقد بدأ حتى الفرنسيين في تفكيك الحصص العامة في الشركات الخاصة خلال الخمسة عشر عاما الماضية. ولم تحدث عمليات تأميم واسعة النطاق منذ أكثر من ربع قرن.

كما أن الرغبة الشديدة بتحقيق المساواة لا تعني بالضرورة أنها ضمان للمساواة، كما تظهر الجامعات الفرنسية. وفي الحقيقة، فإن في فرنسا نظام تعليم عال من مستويين: تخدم مدارسها الكبرى الممتازة نخبة صغيرة، وتحبط جامعاتها من الدرجة الثانية الجماهير. والتعليم مجاني في الجامعات. وليس هناك اختيار للطلاب عند الدخول. وقد بدأت الإصلاحات الأخيرة بإرساء عنصر المنافسة، وستظهر مراكز امتياز في الوقت المناسب. ولكن بالنسبة للبقية، أدى انعدام الثقة بالمنافسة والاختيار إلى ازدحام قاعات الدراسة، وزيادة عدد الطلاب الذين يدرسون الفلسفة وعلم الاجتماع، ومعدل انسحاب عال من الدراسة. وفي التصنيف العالمي لجامعة Shanghai Jiao Tong، لم تصل أي جامعة فرنسية إلى أفضل 40 جامعة.

أما بالنسبة لدور الدولة في مجال التنظيم، فربما تكون حمت الاقتصاد الفرنسي من التقلب الشديد، ولكن هذا ينطبق على الجانب الإيجابي أيضا. والاقتصاد الأكثر استقرارا خلال الركود يعني أيضا اقتصادا أقل ابتكارا ونشاطا في الأوقات الجيدة. وعلى الرغم من العناصر الإيجابية للنموذج الفرنسي إلا أنه لا يشمل بعد ما يكفي من المرونة، مما يترك له مهمة ضمان التضامن، ولكن ليس تحقيق النمو الديناميكي اللازم لاستمراريته على المدى البعيد.

الأكثر قراءة