الزكاة .. لماذا يتحايل التجار عليها؟
جمعني كثير من لقاءات العمل مع رجال أعمال أجلاء ومحترمين، وعادة ما يكون أحد المحاور الرئيسة لبعض اجتماعات العمل يصب في زكاة المال، حيث يرى رجال الأعمال أن لديهم عديد من الالتزامات الزكوية والخيرية لأقاربهم والمحيطين بهم، وهم أولو القربى الذين أوصت الشريعة بالإحسان إليهم خاصة في مثل مجتمعنا المترابط الذي يجعل الفقير يتوقع من أخيه الغني كل دعم ومساندة وخاصة من الأقربين، وهذا الالتزام يدفع رجال الأعمال للبحث عن الحيل القانونية في أحيان كثيرة (وغير القانونية في أحيان أخرى) للتهرب من دفع الزكاة لمصلحة الزكاة والدخل.
المشكلة ليست في تهرب رجال الأعمال من دفع الزكاة لأنني أعرف أن الغالب الأعم منهم إنما يدفع أمثالها وأكثر إلى مستحقيها من ذوي القربى، ولكن المشكلة في النظام العقيم الذي لا يعطي التاجر فرصة استقطاع أي شيء منها للقرابة أو لمستحقيها من غير المستفيدين من المصلحة، إضافة إلى الإشكالية الأخرى في مدى ثقة المكلفين بأن الزكاة المدفوعة للمصلحة تذهب لمستحقيها.
لقد صدر نظام الزكاة بتاريخ 29/6/1370هـ، وكان عند إصداره يعطي للمكلفين (دافعي الزكاة) الفرصة لتوزيع نصف زكاتهم بأنفسهم على المستحقين من وجهة نظرهم، أي وفقاً لتقديرهم، وقد كانت هذه الآلية عادلة بشكل كبير للمكلفين، وتحفزهم على أداء النصف الآخر من الزكاة للمصلحة لتنفقها وفقا للتعليمات الصادرة إليها.
ولكن ما الذي حدث .. لقد تم تعديل النظام في عام 1405هـ الموافق 1985م، ليتم بموجبه تحصيل الزكاة من المكلفين بها كاملة بواقع 2.5 في المائة، وبالتالي قطع هذا النظام أمام المكلفين الفرصة لأداء واجبهم أمام الأقربين والمستحقين الآخرين.
يعرف كل من عايش الأوضاع الاقتصادية في تلك الفترة في عام 1405هـ، أنها كانت فترة الأزمة المالية الطاحنة في السعودية وسنوات العجز في الموازنة العامة مما جعل المسؤولين يعدلون نظام الزكاة، حتى تسهم جباية الزكاة في تغطية جزء أكبر من ميزانية الضمان الاجتماعي، لقد كان تعديل النظام لمواجهة أزمة مالية تعصف باقتصاد الدولة آنذاك، وبالتالي فهي إجراء طارئ وليس دائما، وقد زالت تلك الظروف في الوقت الحالي ولله الحمد.
أما مشكلة الثقة بمصارف الزكاة التي تصرفها مصلحة الزكاة، فقد شغلت العلماء والعامة بالسؤال عنها وقد أفتى كثير من العلماء بأنها تجزئ عن الزكاة، حيث إن ميزانية الضمان الاجتماعي تتجاوز مبالغ الزكاة التي تتم جبايتها بأضعاف، ولكن مع كثرة الفتاوى المتعلقة بهذا الموضوع فلا يزال في النفس شيء.. وفي نفوس رجال الأعمال أشياء.
لا يخفى على الجميع أنه في أمريكا والدول الغربية يتم احتساب التبرعات للجمعيات الخيرية (الكنسية والدينية) كجزء من الضرائب، وخصماً منها، مع أنها حق مباشر للدولة وليست لله كما هي في شريعتنا المباركة، وإن كانت بعض الدول تحسب جزءا منها، أو تضع لها بعض الشروط للاعتماد.
أقترح أن تقوم الدولة بتعديل النظام بحيث يسمح للأفراد وجميع الشركات بالتصرف في جزء من زكاة أموالهم بما يكافئ النصف على الأقل، على أن يحدد جزء منه يتصرف فيه المكلف بمعرفته ولا يسأل عنه ويكون بمقدار الربع، بينما يدفع الربع إلى مصارف الزكاة عن طريق الجمعيات الخيرية المنتشرة في أنحاء المملكة أو لصناديق الأسر المنتشرة في كثير من البيوتات العريقة، بشرط تقديم ما يثبت أنه تم صرفه في مصارف الزكاة الشرعية، ويستمر في تطبيق النظام الحالي وهو دفع الزكاة بالكامل للمصلحة على الشركات المساهمة المدرجة التي لا ينطبق عليها الإجراء أعلاه.
إن مثل هذا التنظيم عند تطبيقه سينظم أعمال الزكاة وسيزيد من فاعليتها، حيث إن المتهربين من دفعها للمصلحة حالياً، بحجة في اليمين أو بعذر في الشمال، سيقومون بدفع نصيبهم كاملاً، حيث إن لديهم الحرية في التصرف في النصف الآخر في مصارفها الأخرى التي يرى كثير من المكلفين أنهم أعرف بها، وبالتالي سنحقق مصلحة الدولة في جباية الزكاة، ومصلحة الشارع الحكيم في صرفها كاملة لمستحقيها ومصلحة المكلفين بتأدية الفريضة وصلة الرحم والحرية في اتخاذ القرار.
وهي ختاما.. تأدية لفريضة.. وتنمية للوطن.. وخطوة في مكافحة الفقر والعوز.. ولن تغني هذه الزكوات ميزانية الدولة.. وهي أخيراً تحقيق لحرية الفرد في أمر هو من أخص خصوصياته مع ربه وخالقه.