هكذا تكون المقاطعة!

هكذا تكون المقاطعة!

كنت أنتظر أن تهدأ تلك العاصفة المفتعلة كي يكون حديثي أكثر صفاءً وغير ملوث بأتربة العواطف الجياشة وثورات الغضب التي لا تعرف سوى الانتقام! الانتقام فقط .. وبأي وسيلة, المهم هو الانتقام.
كنت انتظر أن تهدأ تلك العاصفة المفتعلة التي تستهدف تذويب غاياتنا وتتلاعب بعواطفنا لتأخذ منا كل غال.. لتأخذ منا كل ما تريد.. لتأخذ منا الأب الجد والولد.. وتأخذ الأرض وتأخذ السلام .. وتورثنا الهزيمة والخلاف والحطام .. كل ذلك مقابل ماذا..؟ كل ذلك مقابل أن نقاطع بضائعهم لعدة أيام، ريثما تزداد حاجتنا لتلك البضائع فننقض على شرائها كالأسود الضواري!!
ولك أخي القارئ الكريم أن ترجع قليلاً لتعيد النظر.. وترجع البصر.. فترى كيف تتزامن تلك الدعاوى الكاذبة، مع تنفيذ لتلك المخططات الماكرة.
إضافة إلى ذلك أصبح هناك أزقة للشهرة يركبها كل من جف حبره أو تهالكت ريشته، فمن أصبح هذا شأنه فعليه أن يمتطي صهوة الصور الساخرة.. فيكتب له المجد، وتتناقل رسمته الشاشات.. وتنشر مقالته في جميع الصحف والمجلات، إلى آخره من ظهور في الفضائيات.. مقابلات وجلسات وأمسيات وقل ما شئت من مسلسلات الخسارة.
وحتى لا ينقلب علينا البصر خاسئاً وهو حسير، علينا أن نعيد النظر في "المقاطعة" فنحن بحاجة لأن نراجع أفهامنا قبل أفعالنا.. ونراجع عقولنا قبل ممارساتنا ونراجع عواطفنا عندما يستثيرها ثلة من الأوغاد لتستثمرها بعد ذلك أمم الكفر والإلحاد.
أخي القارئ الكريم: إن المقاطعة الحقيقية هي أن تتكاتف جهودنا ليكون لنا الاستغناء.. فكيف نقاطع ونحن على أرض فلاة ونحن على أرض ليس فيها مصنع ولا سيارة ولا عقاقير ولا طيارة ولا تقنية ولا حتى دراجة.. بل إن ما يصنع لنا لا نستثمره كما يستثمره بنو الإنسان.. فمركبة الفضاء المجهزة بأحدث وسائل الاتصال والمحملة بأقمار صناعية ومعدات تقنية لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بفكر وعلم وجهد، فكم من الحسابات وكم من المعادلات وكم من القياسات التي يصعب حصرها وكم من المحاولات التي لا ينتهي خطرها.. إن هذا الجهد صنع ليستثمر في إنجاز المصالح وتحقيق المطامح، ولكنه قطعا لم يصنع ليستثمر بفضائيات هابطة.. أو تبادل لصور ماجنة تحت أروقة المقاهي أو في دهاليز الأسواق والمحال.. إلى غير ذلك من أنواع الاستثمار الجائر لبقية المنتجات! إن المقاطعة الحقيقية هي مقاطعة الرذيلة واستثمار الفضيلة التي هي أصل في ديننا ومبدأ في عقيدتنا ومنهج في تربيتنا.. ولا أعتقد ولا تعتقد أخي القارئ الكريم أن المقاطعة هي بتحريم ما أحل الله من مركب أو مأكل أو مشرب أو غيرها من وسائل الإذابة التي سرعان ما تنتهي بحلول الحاجة أو ضعف الإرادة.
إن المقاطعة الحقيقية أن يكون لنا منهج ينتهي ببناء يوفر لنا البديل المنافس، الذي يصل بنا إلى مرحلة من الاكتفاء والاستغناء الذي يسمح لنا بتحقيق المعنى الحقيقي للمقاطعة، ولا شك أن ذلك يتطلب منا وقفة صادقة يبدأها الأفراد قبل الجماعات، وتنطلق من مبادئ ذاتية تبدأ بإصلاح الفرد لنفسه ممارسة وأداء وعقيدة وولاء.. وينتهج فيها الجميع منهج البذل والعطاء الذي لا ينتظر مكافأة الحسيب ولا معاقبة الرقيب، بل وعي بهموم الأمة ونهوض باهتمام الجيل في سبيل تحقيق الهوية التي يحسب لها الحساب عندما تنادي بالمقاطعة.

عبد العزيز عبد الرحمن النملة

الأكثر قراءة