الجمعيات الأهلية .. يجب أن تبقى أهلية
بقدر ما يفرحنا أن يكون هناك اهتمام عام بمسألة الجمعيات بلغ الذروة في مداولات مجلس الشورى في مسعى للوصول إلى نظام عام يضم بين جنباته شتات القواعد التي تحكم إنشاء الجمعيات الأهلية، ليخرج منها أساس موحد يصلح للتطبيق على كل الجمعيات، ويترك التفاصيل لكل صنف من الجمعيات على حدة وفقاً لحيثيات إنشائها وأهدافها الخاصة ومهامها وجمهور المستفيدين منها، والجهة المختصة بالترخيص لها، فإنه مما يبعث على العجب، أن توجد ملامح توجه نحو رص الجمعيات في بوتقة واحدة أو حشرها تحت عباءة واحدة في شكل وزارة أو هيئة حكومية تتخذ من اسم المجتمع المدني واجهة لها.
أي مجتمع مدني هذا الذي يتكئ على عصا الحكومة لكي يستطيع النهوض؟ إنه إذن أجدر أن يسمى (مجتمعا رضيعاً) – بالراء – لا يريد له أفراده أن يغادر حضن الحكومة الدافئ ولا أن يعتمد على نفسه في ممارسة نشاطه واكتساب مقومات حياته.
وهذا مفهوم يناقض – حقاً المقاصد التي من أجلها تنشأ الجمعيات الأهلية. والدولة نفسها – ممثلة في ولاة أمرها – فهمت هذه المقاصد حق الفهم. وأمامنا خير مثال دال على ذلك. فهي قد رخصت بإنشاء جمعية أهلية لحقوق الإنسان – مع أنها في الوقت نفسه أسست هيئة حقوق الإنسان الرسمية. أما أحدث مثال بين أيدينا فهو قرار مجلس الوزراء في جلسته المنعقد بتاريخ 17/6/1428هـ بإنشاء وكالة في وزارة التجارة والصناعة تسمى (وكالة الوزارة لشؤون المستهلك) وفي الوقت ذاته قرر إنشاء جمعية أهلية تسمى (جمعية حماية المستهلك).
هل هذه ازدواجية؟ أبداً. بل إن هذه الجمعية ينتظر منها أن تدافع عن مصالح المستهلك وأن تنشر الوعي الاستهلاكي وأن تساند جهود الجهات الرسمية ..إلخ منطوق القرار.
لا أحد يماري في أن الجمعيات كثيرة العدد وبعضها يكرر نفسه وفاعليتها متذبذبة والتزام أعضائها متباين وتمويلها غير مرضٍ، فلذلك لا يماري أحد أيضا في الحاجة إلى وضع لائحة أساسية للجمعيات الأهلية توضح ضوابط إنشائها وتمويلها واستمرارها والالتزامات القانونية التي تترتب عليها، ولكنها يجب أن تبعد عن الإشراف الحكومي على أعمالها وأنشطتها – حتى لو كانت تتلقى إعانات من جهات حكومية. ذلك أن وضعها تحت وصاية هيئة عامة أو وزارة للمجتمع المدني يعوق تحقيق مقاصدها لأسباب نذكر بعضاً منها فيما يلي:
1 – إن ارتباط الجمعيات بجهة حكومية واحدة يخلق سلطة مركزية تتمسك بالروتين وتمارس أساليب بيروقراطية لا تتفق مع طبيعة عمل الجمعيات.
2- إن أي وزارة أو هيئة حكومية إنما تأخذ مواردها المالية من ميزانية الدولة وهذا يجعل الجمعيات تطمئن إلى عطف الدولة وتتهاون في تحصيل موارد ذاتية، ومن ثم يضعف الحماس بين أعضائها والشعور بالمسؤولية.
3- إن تجميع عدد كبير من الجمعيات تحت مظلة جهة واحدة غير مهنية يضعف بالشعور بالانتماء ومن ثم الحافز للعمل التطوعي.
4- إن إشراف جهة حكومية على أنشطة وممارسات الجمعيات سيؤثر في استقلالية القرارات، لأنها ستراعي الجانب الرسمي وقد يكون ذلك على حسب مصالح الفئات الذين أنشئت الجمعية من أجلهم.
5- إن الجمعيات الأهلية تمثل كل منها اختصاصا منفردا وطبيعة عمل خاصة وأغراضا مختلفة يصعب على جهة واحدة استيعاب تفاصيلها عند الترخيص والمتابعة مما يجعل إجراءاتها شكلية روتينية عديمة الجدوى.
ولكن هذا كله لا يعني القطيعة التامة مع الأجهزة الحكومية. فالعلاقة قائمة والتعاون متبادل فيما بينها على الوجه التالي:
1- وجود لائحة أساسية تلتزم بها الجمعيات والجهات الحكومية ذات العلاقة.
2- صدور الترخيص بإنشاء الجمعية من الجهة ذات العلاقة بالنشاط المهني الذي تمارسه الجمعية أو التي يفوضها النظام صلاحية الموافقة على إنشاء الجمعيات (على سبيل المثال الهيئة السعودية للتخصصات الصحية فيما يخص إنشاء الجمعيات العلمية الصحية، أو وزارة الشؤون الاجتماعية فيما يخص الجمعيات الخيرية التي من طبيعتها تقديم العون والمساعدة للمستحقين).
3- تنظيم عملية تلقي التبرعات والإفصاح عن مصادر التمويل من خلال الجهة المانحة للترخيص.
4- مطالبة الجمعيات بتقارير دورية تقدم للجهة مانحة الترخيص لحفزها على ممارسة الأنشطة التي أنشئت من أجلها.
5- تلقي الإعانات الحكومية التي تهدف إلى دعم أنشطة الجمعية عند الحاجة، وليس للصرف على جهازها الإداري. بحيث تمثل هذه الإعانات تبرعا حكوميا يُحسب ضمن موارد الجمعية التي تحصل عليها من التبرعات والاشتراكات والأوقاف وغيرها.
6- في مقابل ذلك تقوم الجمعيات – حسب اختصاصها – بمساندة الجهات الحكومية من خلال تقديم المشورة والرأي الفني أو القيام بالدراسات والأبحاث التي تعرض المشكلات وتقترح حلولها أو تغطية النواحي التي تكمل جهود الدولة مثل التوعية أو مراقبة الجودة أو الانتباه إلى نقاط الضعف والقصور في الأداء الحكومي، أو خدمة المحتاجين وتخفيف معاناتهم.
هذا بعض ما يمكن قوله عن الجمعيات الأهلية، ولا ريب أن المهتمين بهذا الشأن لديهم المزيد.