التقنيات الحيوية ومعلوماتها .. فرصتنا القادمة
التقنيات الحيوية ومعلوماتها .. فرصتنا القادمة
شهدت السنوات العشرون الماضية ثورة كبيرة في وسائل التكنولوجيا الحيوية، ما نتج منه توفر كمية هائلة من المعلومات الحيوية حول تراكيب ووظائف المكونات الحيوية الدقيقة وخاصة الـDNA والبروتين، وتمثلت بشكل رئيس في سلاسل الـ DNA أو الخرائط الجينية للكائنات الحية والتراكيب ثلاثية الأبعاد للبروتين. وكانت الاستعانة بالحاسب الآلي وطرق البحث في البيانات من خوارزميات وتطبيقات رياضية وإحصائية والمعالجة المعرفية الشاملة الذكية للبحث في هذا الكم الهائل من المعلومات متطلباً أساسيا من أجل الوصول إلى الأسرار التي استودعها الخالق في صفاتنا الوراثية، وفهم أعمق لكيفية تفاعل هذه المكونات داخل وخارج خلية الكائن الحي في مختلف الظروف التي تواجه هذا الكائن الحي، في حالة الصحة والمرض، وهذا ما يطلق عليه علم المعلوماتية الحيوية.
ظهر علم المعلوماتية الحيوية (البيو- انفورماتكس) في بداياته كخليط من علم الأحياء وعلم الحاسب الآلي، ممثلاً في علم قواعد البيانات لحفظ واسترجاع البيانات الحيوية الناتجة من التجارب في حقل التقنيات الحيوية. وحفزت قواعد البيانات هذه - بما وفرته من مادة خام - الباحثين من المختصين في المجالات الأخرى كالإحصاء والرياضيات والذكاء الصناعي والاحتمالات، للقيام بأبحاث تستفيد مما وصلت إليه هذه العلوم من طرق وأساليب للدراسة والبحث في هذه المعلومات الحيوية، فأصبح هذا العلم خليطا من هذه العلوم جميعاً. لقد فتح علم البيو- انفورماتكس المجال أمام الباحثين لتبني أساليب جديدة متطورة للبحث في تراكيبنا الجينية، ووفر طرقا لفهم الأمراض ومسبباتها ومراحل تطورها، وبالتالي القدرة على تشخيصها وتصميم طرق العلاج المناسبة. وهناك طلب متنامٍ لوجود مختصين في مجال المعلوماتية الحيوية لمواجهة التطور السريع والتضخم الهائل في كمية المعلومات الحيوية التي تُضخ يومياً في قواعد البيانات، وهو ما قد يوفر آلاف الفرص الوظيفية أمام شبابنا وفتياتنا للانضمام إلى العاملين في هذا الحقل المعرفي، وخاصة الحاصلين على درجة البكالوريوس في تخصصات الحاسب الآلي المختلفة والأحياء والكيمياء والطب والإحصاء وغيرها من العلوم ذات العلاقة، ويمكن لهؤلاء المؤهلين الالتحاق ببرامج الماجستير في المعلوماتية الحيوية. كما أن الفرصة متاحة أمام خريجي الثانوية العامة للحصول على الدبلوم في هذا الاختصاص، ليكونوا بعده مؤهلين للعمل في مراكز البحث العلمي، والطبي، وشركات الغذاء، والدواء. إن التحول إلى إخصائي معلوماتية حيوية أمر في غاية السهولة والمرونة، فمتخصص الحاسب الآلي الراغب في الالتحاق بهذا المجال، على سبيل المثال، سيطلب منه دراسة بعض المقررات في الأحياء والكيمياء لتهيئته وليكون قادراً على تناول وبلورة تخصصه في الحاسب الآلي والاستفادة منه فيما يتعلق بالعلوم الحيوية.
وتتبوأ المعلوماتية الحيوية في الوقت الحاضر اهتماما كبيراً من جميع مراكز الأبحاث الطبية والحيوية، إذ يندر أن يوجد مثل هذه المراكز من دون وجود مركز للمعلوماتية أو البيو-إنفورماتكس Bioinformatics . ويقدم مركز المعلوماتية الحيوية أربعة أنواع رئيسة من الخدمات لهذه المراكز الطبية والحيوية: وأولى هذه الخدمات هو توفير الوصول السريع لقواعد البيانات المختلفة، سواء كانت قواعد بيانات ذات وصول مجاني، أو قواعد بيانات تتطلب الاشتراك للوصول إلى خدماتها. ومن الأمثلة على قواعد البيانات هذه، قواعد بيانات سلاسل الـ DNA، وسلاسل البروتين، والتركيب ثلاثي الأبعاد للبروتين، وقواعد بيانات الاختلالات الجينية المسببة للأمراض وغيرها الكثير من مستودعات المعلومات. والنوع الثاني من الخدمات التي يقدمها مركز المعلومات الحيوية يتمثل في توفير الأدوات وبرامج الكمبيوتر التي يستطيع الباحث استخدامها للوصول إلى معلومات معينة، أو لإجراء عمليات تحليل للبيانات الناتجة عن التجارب، سواء كانت هذه البرامج مجانية توفرها مراكز البحث العلمي بشكل مجاني للباحثين، أو عن طريق شراء حقوق الاستخدام. والنوع الثالث من الخدمات التي يقدمها مركز المعلوماتية الحيوية هي القيام بتصميم أدوات لمساعدة الباحثين على إجراء تحليل للمعلومات، أو تصميم قواعد بيانات خاصة بهذه المراكز الطبية لتخزين معلوماتهم كمعلومات سلاسل الـ DNA المختلة للجينات المسببة للأمراض في بلد ما. والنوع الرابع من الخدمات التي يقدمها منسوبو مراكز المعلوماتية الحيوية هي المساهمة في تصميم التجارب العلمية بمختلف أنواعها، ما يسهم في تحليل نتائج هذه التجارب بشكل احترافي مهني.
إن وجود مراكز للمعلوماتية الحيوية Bioinformatics Center لا شك يعتبر خطوة إيجابية لدعم التوجه التقني للمملكة، وسوف يجني المجتمع الطبي ومجتمع التقنية الحيوية والصناعات الدوائية في المملكة ثماراً إيجابية من هذه المراكز. ونعتقد أن المنظمات الحكومية والخاصة بدأت تدرك أهمية مثل هذه المراكز وسوف تتجه قريباً لإنشاء مراكز مماثلة. كما أن مثل هذه المراكز سوف توفر آلاف الفرص البحثية أمام الباحثين في المجالات المختلفة، وستعطي الباحثين الفرصة نحو توجيه بحوثهم لهذا المجال البكر في المملكة، خاصة إذا ما لاحظنا التنافس الشديد في الأبحاث وندرة وصعوبة إيجاد موضوعات بحثية جديدة في بعض التخصصات، كالرياضيات والإحصاء والفيزياء، والتي يوجد العشرات من المواضيع التي لم تطرق بعد للمعلوماتية الحيوية والمعتمدة أساسا على هذه العلوم.
تملك المملكة العربية السعودية فرصة ذهبية نحو الريادة في مجال التقنيات الحيوية ومعلوماتها نظراً لعدد من المقومات، يأتي الجانب الاقتصادي على رأسها، كما أن المجتمع السعودي يملك ثروة وراثية لم ينقب عنها بعد، ما يوفر الفرص الاقتصادية أمام العاملين في مجال الطب والصيدلة، خصوصاً إذا ما علمنا أن العالم يتجه الآن نحو الطب الشخصي وفقاً للخارطة الجينية للشخص. إن انطلاق المملكة نحو الريادة الشرق أوسطية في مجال التقنية الحيوية ومعلوماتها يجب أن يخطط له بعناية، مع الأخذ في الاعتبار بأن التأسيس الجيد لمقومات المعلوماتية الحيوية عنصر أساس في هذه الريادة إن كان لها أن تكون، وسوف تسهم هذه المراكز في لحاقنا بالركب المعرفي حديث النشأة في هذا المجال عن طريق توفير التعليم والتدريب وإجراء البحوث ودعمها وتوفير الأدوات المساندة للبحث العلمي.
إننا أحوج ما يكون في الوقت الحاضر إلى دعم تكوين مجتمع التقنية الحيوية ومعلوماتها في المملكة العربية السعودية من خلال تصميم وتبني إنشاء عدد من البرامج الداعمة لهذه الاستراتيجية، والعمل على توفير مجموعات بحثية في مجال التقنية الحيوية والمعلوماتية في القطاعات الحكومية والخاصة تتعاون مع بعضها وتتبادل المعلومات من خلال هذه المراكز. كما أن وجود هذه المراكز سوف يكون أساسيا من أجل المساهمة في التسريع من الاكتشافات العلمية في مجالات الأمراض الوراثية في المملكة العربية السعودية، من خلال توفير أحدث ما توفر من أدوات بحثية، كالبرمجيات ومصادر المعلومات كالمجلات العلمية. والأهم من ذلك هو العمل على بناء قواعد بيانات تمكن الباحثين في المملكة من التشارك، وتبادل المعلومات، وربط المختصين وعلماء الحاسب الآلي مع علماء الأحياء وأساتذة الطب. والعمل على دراسة الخرائط الجينية لمسببات الأمراض المستوطنة في المملكة كحمى الضنك، وحمى الوادي المتصدع، وعمل مقارنات بالخرائط الجينية المتوافرة في قواعد البيانات العالمية. والتعاون مع شركات الدواء المحلية والعالمية في محاولة للوصول إلى أدوية مضادة. وعلى الرغم من أننا في المملكة العربية السعودية سنصنف على أننا من الداخلين الجدد لهذا المجال، إلا أننا كما أسلفنا ونظراً للطفرة الاقتصادية التي نمر بها، وحاجة المملكة الماسة إلى مثل هذه الدراسات لمقاومة كثير من الأمراض، سوف يُسرّع بردم الفجوة ولحاقنا بركب هذه التقنية. إن من غير المتوقع أن تسهم صناعة التقنية الحيوية ومعلوماتها في المملكة بأي قيمة مضافة لما هو موجود عالمياً في الوقت الحاضر، وإنما سيكون الهدف هو التأسيس لهذه الصناعات وتأهيل الأفراد القادرين على التعامل مع هذه التقنية. ونعتقد أن عوامل نجاح هذه التقنية في المملكة مستقبلاً سيكون مرتبطاً بشكل رئيسي بقدرتها على تلبية احتياجات السوق داخلياً وخارجياً، وليس بالاعتماد على الدعم الحكومي، لان ذلك سوف يساعد هذه الشركات على توفير منتجات برمجية أو دوائية أو تشخيصية ذات مواصفات عالمية، وتجعل هذه الشركات على اتصال دائم بأحدث المستجدات في هذا المجال ما يدفعها إلى تطوير قدراتها لمواكبة هذا المجال المتجدد لحظياً. وقد تلعب الحكومة هذا الدور الحيوي إذا ما تخلت عن دور الحاضنة المدلِلة إلى دور الرافع لمستوى هذه الشركات عن طريق الإلزام الدائم بمستوى عالٍ من المواصفات المطلوبة في المنتج.
* دكتوراة في المعلوماتية الحيوية وحوسبة الأحياء
[email protected]