منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (40)

منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (40)

منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (40)

[email protected]

ولادة اتفاقيـة الجـات 1947م

أدى عدم تصديق الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الأخرى على ميثاق هافانا إلى انهماك مؤتمر جنيف التحضيري لميثاق هافانا في بحث مشكلتين في آن واحد. الأولى كانت تبحث في كيفية التوصل إلى نهاية سعيدة لوثيقة ميثاق هافانا التي استؤنفت المفاوضات حولها لاحقاً في العاصمة الكوبية، والثانية كانت تتعلق بالتعريفات الجمركية وكيفية تخفيضها لتحقيق مبدأ التحرير التجاري بين الدول، وتحفيزاً للولايات المتحدة - التي توقعت الأطراف المتعاقدة فشلها في إقناع الكونجرس الأمريكي بالتصديق على ميثاق هافانا - دعت بعض الدول الأوروبية إلى عقد مؤتمر تجاري عالمي بالقرب من مدينة نيويورك على مشارف بحيرة ساكسس Lake Success في الولايات المتحدة، يتزامن مع مؤتمر جنيف التحضيري لميثاق هافانا، بهدف تخفيف الضغط على الوفد الأمريكي، والتركيز على التفاوض حول الجزء الخاص بكيفية تخفيض التعريفات الجمركية تدريجياً وطرق إزالة العوائق غير الجمركية. اشترط الوفد الأوروبي أن يتم خلال هذا المؤتمر العالمي توقيع اتفاقية ملزمة لجميع الأطراف المتعاقدة تفي بالغرض المنشود وتسهم في إزالة الحرج عن الوفد الأمريكي الذي اعترف لاحقاً بصعوبة الحصول على موافقة الكونجرس الأمريكي بشأن ميثاق هافانا الرامي لإنشاء المنظمة الدولية للتجارة. تبادلت وفود الدول المشاركة في هذا المؤتمر أكثر من 23 قائمة من قوائم السلع المستثناة من المفاوضات واحتفظت الوفود بأسقف جمركية مرتفعة للمساومة عليها كموقف تفاوضي. تكللت جهود الوفود بالنجاح في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1947، وتم التوصل إلى اتفاق مبدئي بين الدول المشاركة على 38 مادة من نصوص الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة General Agreement on Tariffs and Trade والتي تشكل الفصل الرابع وجزءا من الفصل الثالث من ميثاق هافانا. وافق الوفد الأمريكي على هذه الاتفاقية الهزيلة التي لا يرى أنها تشكل عقبة أمام موافقة الكونجرس الأمريكي لكونها اتفاقية خالية من الأنيابAn Agreement Without Teeth، كما وصفها رئيس الوفد الأمريكي.
لم تملك الأطراف المتعاقدة المشاركة في مؤتمر هافانا إلا أن تتماشى مع مرئيات الوفد الأمريكي المحرج من هذه التطورات، خاصة أنه يمثل الإدارة التنفيذية في دولته العظمى. واشترطت أن يقوم الجانب الأمريكي لدى عودته إلى بلاده بالسعى إلى إقناع السلطة التشريعية المتمثلة في الكونجرس الأمريكي بعدم تعديل بنود ميثاق هافانا. وانتهى هذا الأمر باقتناع الأطراف المتعاقدة كافة، ومنها الوفد الأمريكي، وموافقتهم المبدئية على تنفيذ البنود الأخرى الخاصة بتحرير التجارة وتخفيض التعرفة الجمركية فقط. وأدى ذلك إلى نجاح الدول المشاركة في المؤتمر التحضيري في مدينة جنيف حيث تم اعتماد الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارةGeneral Agreement on Tariffs and Trade والتي أصبحت نافذة المفعول من قبل الأطراف المتعاقدة في الأول من كانون الثاني (يناير) 1948م.
انتهى مؤتمر هافانا رسمياً فى 24 آذار (مارس) 1948م، أي بعد التصديق على اتفاقية الجات في جنيف بأربعة أشهر وبدأت وفود الدول الأعضاء في الاتفاقية الوليدة بتنفس الصعداء، آملين أن تأتي موافقة الكونجرس الأمريكي خلال فترة وجيزة. إلا أن الوفد الأمريكي المشارك في المؤتمر فشل خلال السنوات العشرة التالية في إقناع الكونجرس الأمريكي بجدوى ميثاق هافانا الهادف لإنشاء المنظمة الدولية للتجارةInternational Trade Organization ليتم على ضوئه وأد مقترح إنشاء هذه المنظمة في مهدها والاستمرار في تنفيذ اتفاقية الجات فقط، لتبدأ مسيرة التجارة الدولية والتي من أهم بنودها خوض جولات المفاوضات التجارية متعددة الأطراف بين الدول الأعضاء في الاتفاقية لزيادة التحرير التجاري بينها والسعي لترغيب الدول الأخرى في الانضمام إليها بهدف زيادة الثقة بهذا النظام التجاري العالمي الجديد.
انتقلت وفود الأطراف المتعاقدة Contracting Parties ، التي وقعت على تأسيس اتفاقية الجات47 GATT 47 وعددها 23 دولة، ومنها سورية ولبنان والصين، إلى مدينة جنيف الممطرة لإنهاء إجراءات توثيق الاتفاقية لتصبح نافذة بتاريخ الأول من كانون الثاني (يناير) 1948م. كانت هذه الوفود تعيش حقبة من التاريخ تشبه إلى حدٍ ما فترة النقاهة التي يعيشها الطفل الرضيع بعد العملية القيصرية العسيرة التي أجريت لوالدته. بدأت الدول التي لم تستسلم للاتفاقية، وانسحبت من المؤتمر، في التشكيك في نجاحها خاصة أن الدول التي وقعت على هذه الاتفاقية لا يربطها رابط يذكر، أكان اقتصادياً أم تجارياً أم سياسياً. فمنها الدول الرأسمالية برئاسة الولايات المتحدة ومنها الدول الشيوعية الاشتراكية برئاسة الصين وبعضعها لا تمت بصلة لأيّ من القطبين المتناقضين مثل سورية ولبنان ونيوزيلندا، بل هنالك قلة من المؤرخين الذين اعترفوا فيما بعد أن سبب نجاح المؤتمر التجاري الدولي المنعقد على ضفاف بحيرة ساكسسLake Success، كان بسبب اعتماد العديد من اقتصاد الدول المتفاوضة على الدولار الأمريكي، وبالتالي فإن دخول منتجاتهم إلى السوق الأمريكي يكسبهم مردوداً إيجابياً من العملات الصعبة، فقامت هذه الدول بتقديم التنازلات اللازمة لإقناع الوفد الأمريكي بجدوى الاتفاقية آملين في الحصول على التنازلات المماثلة من الجانب الأمريكي تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل.
لدى نجاح هذا المؤتمر، كان يجب على الأطراف المتعاقدة أن تبدأ مسيرة شاقة لإثبات جدوى هذه الاتفاقية، فبدأت وفودها في تكثيف اجتماعاتها وإطلاق مبادراتها والتخطيط لمستقبلها، بادر الوفد الأمريكي لتحفيز إدارته التشريعية الكونجرس الأمريكي، باقتراح جولة من المفاوضات تبدأ في جنيف بين الأطراف المتعاقدة لزيادة التحرير التجاري بينها. وافقت وفود الدول الأعضاء في اتفاقية الجات 47 على هذه المبادرة لتبدأ جولات المفاوضات الثماني الطويلة التي استمرت من عام 1948 إلى عام 1994م.
ولقد حاولت الأطراف المتعاقدة في الاتفاقية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ممارسة أساليب المبادلات التجارية بحرية دون عوائق، ولكن بسبب اختلال القواعد المنظمة لاتفاقية الجات47، افتقد النظام الاقتصادي العالمي توازنه، حيث كان يعمل لمصلحة الدول الغنية التي تمثل 25 في المائة من سكان العالم فقط وضد مصالح الدول الفقيرة التي تمثل 75 في المائة من سكان العالم.
كما أن الاتفاقية أظهرت أيضاً المشكلات بين الدول الصناعية الغنية الكبرى مما حدا بالأطراف المتعاقدة في الاتفاقية إلى خوض جولات من الحوار والمفاوضات بين بعضها البعض لإعادة تنظيم التجارة الدولية بما يحقق مصالحها الحيوية، وبدأت جولات المفاوضات الثماني في جنيـف 1947م وانتهت في جولة الأوروجـواي 1986 - 1993م .

الأكثر قراءة