6 آلاف مزرعة و3200 مشروع دون إسكان أو خدمات
6 آلاف مزرعة و3200 مشروع دون إسكان أو خدمات
من خلف الحواجز الترابية المرتفعة التي تحيط بعدد كبير من مزارع بسيطا الشهيرة - التابعة لمنطقة الجوف - تظهر تلال قمح منتجة هذا العام مغطاة بأغطية بلاستيكية.
في الحقيقة هذه الكميات وغيرها التي يمكن أن تتجاوز 800 ألف طن في العام هي نتاج جهد عام كامل من المكابدة ونحو 15 عاما من الخبرات المتراكمة سواء لسعوديين أو لعمالة أجنبية تعشق هذا المكان منذ أن أطلقت الحكومة شرارة المشاريع من خلال تشجيع إقامة مشاريع لتربية الماشية في نهاية الثمانينيات الميلادية، لسد أي حاجة محلية للحوم، قبل أن تتحول جل المنطقة إلى زراعية خالصة إلا من مشاريع تسمين أغنام وأرانب معدودة.
في هذا المكان يمكن أن يزرع كل شيء، والحقيقة أنه يزرع هنا كل شيء تقريبا في ظل وفرة مياه جوفية تستخرج من على عمق بعد 350 مترا، وأرض زراعية خصبة، كان يظن على مدى قرون أنها عبارة عن صحراء قاحلة، لكن الحكومة بالمنح والقروض شجعت المستثمرين على ضخ نحو 30 مليار ريال على مدى العقدين الماضيين لتحول وجهة المنطقة والشمال السعودي عموما.
آلاف القطع الزراعية التي وزعت على الأفراد من خلال مخططات متجاورة، بينما أخذت الشركات والمشاريع الكبيرة نصيبها من الكعكة على صعيد الأرض المجانية أو القرض التي تمنح من خلال صندوق الإقراض الزراعي المحلي.
في بسيطا تذهلك المساحات الشاسعة، والمزارع المتراصة، بينما تظهر من وقت لآخر أشجار عملاقة حيث فضل كثيرون تحويل المزارع إلى مكان جميل لقضاء وقت ممتع بين الحقول. لكن لابد أن تلفت نظرك رداءة الطرق المعبدة التي تتقاطر فيها المعدات والحراثات، كما يلفت نظرك غياب تام لمراكز الشرطة (الأمن)، ومراكز الدفاع المدني (الإطفاء تحديدا)، والمستشفيات، ولا تستغرب إن علمت أن المنطقة الشاسعة لا يوجد فيها أسواق أو محال تجارية سوى ما أقيم داخل بعض الشركات والتي يستفيد منها بالدرجة الأولى موظفوها.
"الاقتصادية" تجولت داخل حقولها وطرقها .. وخرجت بسلسلة تحقيقيات تنشر على ثلاثة أجزاء تستعرض ابتداء من اليوم..إلى التفاصيل:
بسيطا .. البداية والوضع الحالي
على بعد نحو 180 كيلو مترا إلى الشمال الغربي من سكاكا العاصمة الإدارية لمنطقة الجوف تقع البسيطا التي كانت إلى وقت قريب ربما عدة أشهر معزولة عن مناطق الوسط السعودي. سبب عزلها كان صعوبة الوصول إليها حيث كان الذهاب إليها يحتم المرور بعرعر أولا فسكاكا ثم دومة الجندل المدينة الثانية في منطقة الجوف، أو الوصول إليها عن طريق تبوك. لكنها الآن تطل بمنتوجاتها عبر طريق حائل الجوف الجديد واعدة بمستقبل أفضل لكل مناطق الشمال.
وحول هذه النقطة يقول أحد مسؤولي الشركات الزراعية إن منتجاتهم تصل إلى الرياض بعد 33 ساعة على الأقل من شحنها من المزرعة، في حين أن الطريق الجديد قلص الفترة الزمنية إلى نحو 15 ساعة فقط في أسوأ الظروف حيث تبلغ المسافة بين حائل وبسيطا 550 كيلو مترا فقط، وعن الرياض 1000 كيلو متر.
استخدمنا (زميلي المصور نايف السلحوب وأنا) الطريق الجديد (حائل – الجوف) للوصول إلى هدفنا. على مقربة من بسيطا تلفت نظرك اللوحات العملاقة للشركات الزراعية التي تدل على مشاريعها. حيث تتراص اللوحات بدءا من شركة الوطنية الزراعية – إحدى أهم الشركات الرائدة في بسيطا والتي تخصصت في الزراعة العضوية الخالية من الكيماويات، و شركة الجوف، "نادك". كما توجد في المنطقة شركة الراجحي، "المكيرش"، شركة القصيم، وشركة التسهيلات، حيث تمتلك هذه الشركات مساحات شاسعة تصل إلى 150 ألف هكتار. في الطريق إلى بسيطا بدأت المعدات تسوية المسار الآخر للطريق، بينما تتقاطر الشاحنات التي تحمل الأعلاف (تبن، برسيم) خلف بعضها في الطريق قادمة من البسيطا مشكلة سلسلة كبيرة يصعب اجتيازها. وربما يكون هذا الوقت من العام هو الأكثر استخداما للطريق الذي يسلكه أيضا المسافرون من وإلى تبوك.
6000 مزرعة و 3200 مشروع
سألت فهد طعم الله الدرباس مدير عام الزراعة في منطقة الجوف عن عدد مزارع الأفراد في منطقته فقال إنها تتجاوز ستة آلاف مزرعة. وبالتأكيد فإن هذا رقم مهول وكبير جدا، والأكيد أيضا أن النسبة الكبرى من الرقم موجودة في هذا المكان. أقصد بسيطا التي يوجد فيها أيضا أكثر من 3200 مشروع زراعي كما قال الدرباس لنا فيما بعد. لكن لا يوجد فيها فروع لوزارة الزراعة التي تقتصر فروعها على دومة الجندل والقريات وطبرجل.
ويقدر المسؤول الزراعي الحكومي الأول في المنطقة المساحات المزروعة بنحو 428 ألف هكتار يزرع فيها القمح، والأعلاف والخضراوات والفواكه والزيتون.
أول مخطط في 1989
وروى الدرباس لـ "الاقتصادية" قصة أول توزيع أراض على المواطنين فقال إن ذلك كان من خلال المخطط 24 عام 1988، وبعدها توالت المخططات بشكل كبير جدا.
وفي لغة الأرقام كان الدرباس دقيقا وهو يؤكد أن إنتاحية الهتكار في بسيطا تتجاوز ثمانية أطنان للهكتار الواحد، وهو رقم عال وممتاز للغاية في لغة الزراعيين. ويزرع في المنطقة 120 ألف هكتار وهي مساحة تكاد تتجاوز مساحات بعض الدول العربية، وتنتج أكثر من 800 ألف طن سنويا يشكل أكثر من 30 في المائة من الإنتاج العام للسعودية الذي يتجاوز المليوني طن بقليل. وتضم البسيطا أكثر من خمسة ملايين شجرة زيتون تنتج – وفق إحصائيات وزارة الزراعة التي عرضها الدرباس – ثلاثة آلاف طن من زيتون المائدة وأكثر منها بقليل زيت زيتون.
على صعيد الفواكه فإن المنطقة ربما تكون الأبرز في السعودية، حيث تبز الوطنية الزراعية تحديدا مثيلاتها في إنتاج الخوخ، والمشمش والتفاح، وتحول جزء منه إلى عصائر طبيعية.
تربية الماشية .. لماذا توقفت؟
الهدف الأول لتوزيع الأراضي والمشاريع في بسيطا كما يقول أهلها، هو دعم تربية الماشية لسد حاجة البلاد. في بادئ الأمر عرض الأمر على عدة مستثمرين لتبني المشروع، ثم منح المستثمرون القروض والتسهيلات فبدأت هذه التجربة، لكنها مع السنين تبين أنها صعبة للغاية.
حاليا لم يستمر في هذا النشاط سوى المستثمر الشهير سليمان الراجحي عبر شركته "الوطنية الزراعية" التي واصلت مشوارها في تربية الماشية وتضم حاليا نحو 350 ألف رأس من مختلف الأصناف والأنواع.
في "الوطنية" شرح لنا محسن الغربي وهو شاب سعودي رائع يعتلي منصب مدير إدارة الإنتاج الحيواني في المشروع كيفية السيطرة على هذا العدد الكبير من الماشية من مختلف الأنواع. وتجولنا داخل حظائر كبيرة جدا خصصت لتهجين وتحسين السلالات في واحد إن لم يكن الوحيد من المشاريع المهتمة بهذا الأمر. كان رائعا استخدام التقنية في تربية الماشية من خلال أجهزة عالية الدقة بإشراف شباب سعودي، والأروع هو مكابدة ظروف الطقس في هذا المكان وغيره لإنتاج سلع مهمة للسوق المحلية.
كان الغربي يتنافس مع زميله الآخر المهندس أحمد السيف مدير إدارة الإنتاج النباتي بشكل باسم في التعريف بمكونات "الوطنية"، حيث تفرغ الأخير لتعريفنا بمكونات المشروع النباتية التي تحتوي على كل ما يتخيله الشخص. بدءا من الطماطم التي تزرع عن طريق التنقيط، الخيار، الباذنجان، والفواكه التي تشتمل على العنب، الخوخ، المشمش وغيرها من الأصناف الأخرى.
الأكثر روعة أن تطلع على تجربة لم يتجاوز عمرها 19 عاما حولت هذا المكان الصحراوي إلى سلة غذاء تعتمد في عملها على أحدث المختبرات العلمية، حيث تنتج الفاكهة والخضراوات العضوية التي تتواجد يوميا على موائد السكان في السعودية والخليج.
30 مليار ريال .. و أسئلة؟
يقدر بعض المهتمين بالمنطقة حجم الاستثمار فيها بشكل عام بنحو 30 مليار ريال، وهو رقم كبير جدا وضخم في الوقت نفسه، لكن الأسئلة تتناثر حول هذا العمل الجبار، وتنحصر جمعيها في سؤال واحد: لماذا لا توجد خدمات بنية تحتية في بسيطا رغم كل هذه المساحة وهذا العدد الكبير من المزارع التي يحتاج إليها أهلها وقاطنوها إلى الخدمات الأساسية.
أبو عباة: هذه معاناتنا
من أول المشكلات التي لا يمكن تجاوزها عدم وجود مدينة سكنية للعاملين في مشاريع بسيطا. المشاريع الموجودة فيها مئات السعوديين وآلاف العمالة الوافدة تضطر إلى بناء مساكن داخل حدودها. وحول هذه النقطة يقول المهندس إبراهيم أبو عباة مدير عام الوطنية الزراعية، إن عدم وجود المدينة السكنية أجبر الشركات على بناء مساكن لعمالتها وقياداتها داخل المشروع. ويعترف أن هذا الأمر مكلف للغاية .. لكنها "الحاجة" كما يقول أبو عباة. يواصل أبو عباة الحديث: الشركات هنا تحملت كل شيء، ابتداء من توفير الإسكان للعاملين في المنطقة مرورا بتعبد الطرق، ومد خطوط الهواتف الهوائية. كل هذا معاناة لا يعرفها إلا من يكابدها.
لا توجد مدارس
ويمتد حديثنا إلى المدارس فيقول أبو عباة: قبل عدة سنوات كان أبناء مهندسي وعاملي المشاريع يدرسون في القرى المجاورة وهي بعيدة، ومستوى الخدمة فيها متدن. وهذا حد كثيرا من عمل كثيرين ممن فوتوا فرص الالتحاق بالشركات، لكن الآن هناك مدرسة بمختلف المراحل داخل الوطنية، تجتذب أبناء العاملين من كل الشركات والمزارع المحيطة.
مدير عام بلا أسرة
ويتفق مع المهندس أبو عباة الدكتور عبد العزيز الشعيبي مدير عام شركة الجوف الزراعية، الذي لم يمض على التحاقه بالعمل إلا عدة أشهر حيث يقول: لا تتصور كيف صدمت بتدني الخدمات. لا يوجد أي خدمات هنا. ويعترف: رفضت جلب عائلتي إلى هنا قبل أن تتعدل الأمور. صدمت بالتأكيد عندما يعيش قيادي في شركة استثمارية مثل هذا الوضع بعيدا عن أسرته، ترى ما حال الموظفين الآخرين العاملين؟
الشعيبي كان يتحدث بحسرة فيقول: حاولت بالتعاون مع زملائي في الشركات في التحرك والعرض على الجهات ذات العلاقة. مستعدون للتضحية مقابل أن نحصل على خدمة تحتية، لا يمكن في ظل اتجاه الشركات للاستثمار في بسيطا حرمانها من الخدمات. لم يعد الأمر محتملا يجب أن توفر بنية تحتية. ويتساءل ما الذي يمنع من ذلك؟
غياب الصحة والدفاع المدني
هل يعقل هذا؟ ربما ستردد هذه الكلمة عدة مرات وأنت تتجول في هذا المكان الشاسع الذي جمع هذا الكم من الناس والحديد والنبات، لكن لا يوجد فيه مرفق صحي. ترى ماذا يفعل الناس بأبنائهم إن مرضوا؟ يقول أحمد السيف: لا يوجد خيار .. لدينا مستوصف صغير يمكن أن يباشر بعض حالات نزلات البرد أو الزكام، لكنه حتما لا يستطيع أكثر من ذلك.
المشكلة ليست فقط في عدم وجود المستشفيات والخدمات الصحية، بل إن اللجوء إلى مستوصفات رديئة مثل تلك الموجودة في قرى بعيدة يعد مخاطرة، والحل التوجه إلى دومة الجندل أو سكاكا، وأحيانا تبوك.
غياب الإمكانيات الصحية يتربت عليها مشكلات كثيرة للشركات، فشركات التأمين ترفض التأمين على عمالتها بالنظر إلى عدم وجود منشآت طبية فيها. هذا أحد المعوقات والمعوقات الكبيرة التي تواجه الشركات خاصة إذا علمنا أن شركة مثل الجوف لديها أكثر من 1400 عامل، و 1200 عامل في الوطنية الزراعية وأعداد قريبة من هذه الأرقام في الشركات الأخرى.
مدينة سكنية .. حلم!
قلت لأبو عباة مرى أخرى .. ما الحل برأيك؟ فقال: قد نكون حاليا أفضل حالا من السابق بشكل نسبي، خاصة أن وزارة النقل بدأت في إنشاء طريق داخل بسيطا يمتد إلى طبرجل، لكن يجب أن يعرف الجميع أن الشركات تتحمل كل شيء. لقد شيدت الطرق، وبنت المساكن، وأقامت مدارس، لكنها لا يمكن أن تتحمل كل شيء للأبد. السكن يبقى معضلة .. ولابد من تخصيص مكان يتوسط الشركات، من خلال بناء مدينة سكنية مخدومة بكافة الخدمات سواء الأمن، الإطفاء، الأسواق، مدن الترفيه، والمستشفيات، وغيرها من الخدمات. يواصل أبو عباة الحديث: هنا أغلب قيادات الشركات, ومهندسوها يسكون مع عائلاتهم داخل المشاريع، وهذا سيدعم الجوانب النفسية لهم، حيث يجب أن يتمتعوا بخصوصيتهم خارج أوقات الدوام، بدلا من الإقامة داخل المشروع.
"الجوف الزراعية" تتبرع
يعود الشعيبي وهو كما قلنا مدير عام شركة الجوف الزراعية، فيقول "نحن في الشركة على استعداد للتبرع بقطعة أرض من خلال استقطاع جزء من أراضي الشركة لإقامة مدينة سكنية بشرط أن تتوافر فيها الخدمات".
جيد هذا التفاعل الجميل الذي يحتاج بالتأكيد إلى التفاعل المقابل من قبل الجهات المسؤولة سواء في إمارة المنطقة أو في الوزارات المعنية.
زراعة في بسيطا .. وصوامع في سكاكا!
لا تتوقف معاناة أصحاب المشاريع في المنطقة، فعدا الخدمات التحتية التي ذكرناها قبل قليل، فإن هناك معاناة أخرى تتعلق بأن المنطقة لا تؤخذ في الاعتبار في المشاريع الكبيرة.
هنا يتحدثون عن مشروع جديد كانت الأماني أن يكون موقعه داخل بسيطا هو توسعة صوامع الغلال في سكاكا، الذي وضع حجر أساسه قبل أشهر. الجميع يتساءل لماذا وضعت هناك مادام المحصول سيزرع في بسيطا. يبدو التساءل منطقيا.
يعتقد السكان أنه إذا كان المشروع الحالي قد أقيم في وقت سابق لم تتضح فيه معالم الوضع الزراعي فإن المنطقي أن تأخذ المشاريع الجديدة في الاعتبار إمكانيات المنطقة. الآن يتعين على المزارعين بكل فئاتهم نقل محاصيلهم التي تتجاوز 800 ألف طن إلى سكاكا على بعد 180 كيلو. وهذا يحتاج إلى 16 ألف شاحنة ربما تكلف الملايين وتدمر الطرق التي هي في الأصل رديئة.