لو عرفت أن وجبتك سقيت بمياه الصرف الصحي .. هل ستأكلها؟
نشطت في الآونة الأخيرة في منطقة مكة المكرمة عمالة وافدة عمدت إلى ترويج وتسريب منتجات زراعية وأسماك يتم ريها وتربيتها بمياه الصرف الصحي الملوثة وغير الصالحة للاستهلاك الآدمي، مستفيدين من تدني سعر التكلفة مقارنة بالمنتجات الصحية التي تباع في الأسواق المركزية. وفيما أحدثت هذه الظاهرة حالة من الدهشة بين الأهالي من المفارقة المتباعدة في الأسعار بين السوق المركزية للخضراوات وتلك التي تسوقها عمالة وافدة وخصوصاً في حلقة الكعكية (جنوب العاصمة المقدسة) كشفت عن مخاوف بين أوساط المستهلكين من إن تؤدي هذه المنتجات إلى أضرار صحية بالغة بعد أن ساورتهم الشكوك بأن هذه المنتجات ما هي إلا حصاد مزارع موبوءة تسقى من مياه الصرف الصحي وكانت أمانة جدة والعاصمة المقدسة ممثلة في صحة البيئة حصرت العديد من المزارع التي تروى بمياه الصرف الصحي بالتعاون مع بعض جهات الاختصاص، وقدرت حينها بما يربو على 168 مزرعة فيما أحبطت الجهات الأمنية عشرة أطنان من الخضراوات والأسماك الفاسدة كانت في طريقها لتسريب إلى الأسواق المركزية في جدة ومكة المكرمة.
"الاقتصادية" بدورها رصدت حجم المشكلة من خلال جولة ميدانية على تلك المزارع المخالفة التي تقع في أطراف مكة وتديرها عمالة مخالفة لنظام الإقامة والعمل كما رصدت وجود هذه المنتجات في الشوارع والطرقات و في داخل مطاعم مخالفة في الأحياء العشوائية.
كانت بداية هذا التحقيق عندما أحبطت الجهات الأمنية بالتعاون مع أمانة العاصمة المقدسة كمية كبيرة من الأسماك الفاسدة هربت داخل ثلاجات، اتضح أنها كانت تعيش في مستنقع من مياه الصرف الصحي، لنكتشف بعدها من خلال الجولة الميدانية عن وجود مزارع مخالفة يديرها عمال وافدون يزرعون الخضروات والورقيات، وينشؤون أحواضا اصطناعية لتكاثر الأسماك (الاستزراع السمكي)، ومن ثم تنشط عملية تسويق هذه المنتجات بالتعاون مع مجموعة من أبناء جلدتهم داخل أسواق مكة مستفيدة من ارتفاع أسعار الخضراوات والمنتجات الزراعية عموما، وقد انعكس ذلك على حركة البيع والشراء في السوق المركزية.
تقع هذه المزارع جنوب مدينة مكة، في مكان تصب وتجري فيه مياه الصرف الصحي للمدينة طوال العام، الأمر الذي يثير عددا من التساؤلات المهمة: أين الأجهزة الرقابية لوزارة الزراعة والمياه والأجهزة المعنية الأخرى؟ كيف يقبل المواطنين المحيطين بهذا الأمر، ولم لا يتم التبليغ عن هذه المخالفات؟ أين أمانة العاصمة المقدسة؟
تابعها: خميس السعدي
تصوير: غازي مهدي
168 مزرعة يديرها عمال وافدون
أكد عبد الله ناصر (أحد باعة الخضراوات في السوق المركزية)، أن عدد من المواطنين قد طالبوا بتكثيف الحملات على المزارع الواقعة جنوب العاصمة المقدسة والمجاورة لمخطط ولي العهد، أو الموجودة في وادي الجموم وجبل العصلا وغيرها من المناطق الأخرى، مشيراً إلى أن تلك المناطق تم ضبط الكثير من المزارع التي تروى منتجاتها الزراعية من مياه الصرف الصحي الجارية في المواقع القريبة منها، أو من خلال المياه الجوفية والملوثة أيضا بمياه الصرف الصحي، مما أثر في مستوى الإنتاج الوارد إلى الأسواق.
وقد أسهم توريد المنتجات من هذه المزارع النشطة في انحسار نسبة كبيرة من المساحات المزروعة، في ظل شح المياه وانخفاض مناسيبها في الآبار، وهي المشكلة التي تعاني منها الكثير من المزارع، وخاصة في المراكز الزراعية المعروفة في العاصمة المقدسة، وقد تم حصر ما يربو على 168 مزرعة مخالفة أقيمت بواسطة عمالة مخالفة، خلال مسح سابق لإحدى الجهات الرسمية.
خالد الحارثي أحد المستهلكين الذي صادفناه يتسوق من أكشاك العمالة الوافدة، يقول: لا نعلم على وجه الدقة مصدر هذه المنتجات سوى ما دون عليها، متسائلا في دهشة: كيف سيعلم المواطن العادي عن شيء كهذا، مشيرا إلى أن المحلات خارج الحلقة تجمع الصالح والطالح، معتبرا الأمر غير مستبعد، محملا مسؤولية ذلك على وزارات البلديات، الصحة، والزراعة، إذ إنه يرى أن المشكلة تعتبر خطرا يحدق بالمستهلك على المدى البعيد، من المحتمل أن تصيبه بأمراض خطيرة لا شفاء منها!
أسواق متحركة تهدد بغلق السوق المركزية
تنتشر في العديد من شوارع مكة حلقات صغيرة لبيع الخضار والفواكه على غرار الحلقة الرئيسة فيها، وتعمل فيها عمالة وافدة مخالفة لنظام الإقامة والعمل، وينتشرون في الشوارع بحجة أنهم يوفرون على المستهلكين عناء الذهاب إلى الحلقة الرئيسة، مع أن ذلك يعد مخالفة صريحة للنظام وقد اعترف بذلك غالبيتهم ممن التقتهم "الاقتصادية" في جولتها لمتابعة قضية الخضراوات التي تسقى بمياه الصرف الصحي.
وقد نفى كل من يعمل بهذه الحلقات الصغيرة أي صلة لهم بتلك الخضراوات الملوثة، وقالوا إنهم لا يتعاملون مع منتجات تلك المزارع التي تسقى بمياه الصرف الصحي، رغم أنهم لم ينفوا علمهم بها، إلا أنهم قالوا إن لهم مسوقين يعرفونهم تمام المعرفة يجلبون لهم الخضراوات من أماكن بعيدة عن مكة، وإنهم لا يرضون لأنفسهم أن يبيعوا خضراوات ملوثة تعرض صحة الإنسان للخطر. تلك الحلقات الصغيرة التي تبيع الخضراوات هي عبارة عن أكشاك من أخشاب وصفائح معدنية متحركة وأخرى ثابتة يعتمدون على إنارتها - ليلاً - بالمولدات الكهربائية، أو ينصبونها بحيث تكون قريبة من أعمدة الإنارة في الشوارع العامة، وهي إضافة إلى ذلك تتسبب في إحداث زحام في الشوارع، الأمر الذي يؤدي إلى إرباك السير ويعرقل حركة المرور.
الخضراوات الملوثة سبب رئيس لأمراض السرطان
للوقوف صحيا على حجم وأبعاد المشكلة، التقينا بمحمد حبيب البخاري الباحث المائي المعروف، وأكد لنا أن بعض المشاكل الصحية التي ظهرت أخيرا في المملكة وخصوصاً في المنطقة الغربية، هي نتيجة تسمم بعض الخضراوات مجهولة المصدر بمادة الزرنيخ ومادة الكادنيوم، مشيرا إلى أن الدراسات أظهرت أن تناول الخضراوات الملوثة بهاتين المادتين أسهما بشكل مباشر في ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطانات مثل سرطان القولون، المريء، المعدة، وسرطان الدم، مؤكداً على أن نسبة الارتفاع بالإصابة بالسرطان بصفة عامة تعود إلى استخدام مياه المجاري مباشرة أو بعد المعالجة الأولية فقط في زراعة الخضراوات أو الاستزراع السمكي.
واستنكر البخاري تصرفات بعض المواطنين السعوديين، بتسترهم على العمالة التي تتاجر بالموت من خلال زراعة وبيع هذه المنتجات الملوثة، في ظل عدم وجود الرقابة الكافية من قبل وزارة الزراعة والبلديات، مؤكدا أن التلوث الميكروبي أو الكيميائي للمياه يعتبر من أكثر الملوثات ضررا على صحة الإنسان، وأن مياه الصرف الصحي تزيد على ذلك باحتوائها على الصابون والمنظفات الصناعية وربما المبيدات الحشرية.
واستشهد بخاري بما حددته الأبحاث العالمية، وذلك بوجود نحو 60 ألف نوع من الملوثات في مياه الصرف الصحي، تتراوح كمياتها وخطورتها من مواد محرم استخدامها مثل الديوكسين، إلى مواد يمكن أن يتحملها الجسم السليم، مشيراً إلى أنه ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن مياه الصرف الصحي إذا لم تعالج جيدا تسبب أمراضا خطيرة للإنسان وخاصة إذا تسربت إلى مياه الشرب، وذلك بسبب احتواء مياه الصرف الصحي على أعداد هائلة من الكائنات الدقيقة مثل البكتيريا والفيروسات والطفيليات، وهو ما يؤدي إلى نقل العديد من الأمراض مثل الكوليرا والتيفود وشلل الأطفال. وأضاف بخاري: يعتبر التلوث الميكروبي للمياه هو السبب في انتشار وباء السالمونيلا والالتهاب الكبدي في عدد من دول العالم، وتلعب الكائنات الحية الدقيقة دورا في تكون ما يعرف باخضرار الماء، وتظهر على شكل طبقة خضراء من الأعشاب على سطح خزانات المياه والبحيرات وشواطئ البحار مما يسبب مرض زرقة العيون لدى الأطفال، وأن من أكثر الأمراض انتشارا بسبب التلوث هناك الكوليرا، الملاريا، التيفود، البلهارسيا، أمراض الكبد الوبائية، والدوسنتاريا بكافة أنواعها، كما تعتبر الأميبيا والإسكارس والأنكيلوستوما من الطفيليات المعوية الموجودة في مياه المجاري، وهي التي تسبب الموت حسب نشرات منظمة الصحة العالمية التي بينت أن عدد المصابين بها في البلدان العربية بلغ نحو 177 شخصا من كل ألف شخص.
وأبان البخاري أن التعليمات الصحية العالمية تنص على أنه لا يجوز ري الخضراوات التي تؤكل نيئة مثل: الخس والبقدونس والجزر والسبانخ، والتي ربما تتعرض أوراقها للتلوث بمياه المجاري ولو كانت معالجة، كما لا تسمح المنظمات الصحية العالمية بري الخضراوات التي ترتفع قليلا عن سطح الأرض بمياه المجاري إلا بعد معالجتها بما يسمى المعالجة الثلاثية، وهي المعالجة النهائية، وفيها يتم التخلص من البكتيريا والفيروسات والمواد العضوية، شريطة إجراء رقابة دورية ومستمرة على نوعية المياه، ولا يمكن ري بعض الفواكه أو تلك الأشجار التي ستتعرض منتجاتها قبل التناول - مثل قصب السكر- بمياه الصرف الصحي إلا بعد معالجتها، كما يجب ريها بطريقة التنقيط بحيث لا يصل ذلك الماء إلى أصل النبات لتقليل التلوث الميكروبي، موضحاً أن الطرق التقليدية لتنقية المياه لا تقضي على الملوثات الصناعية – كالهيدروكربونات - والملوثات غير العضوية والمبيدات الحشرية وغيرها من المواد الكيميائية المختلفة.
وقد قدرت إحدى الدراسات الأكاديمية حجم مياه الصرف الصحي في السعودية بـ 1.5 مليون متر مكعب يوميا، وقد طالب مختصون بالمياه بضرورة تأسيس هيئة جديدة لتنظيم خدمات المياه والصرف الصحي في السعودية، أسوة بهيئة تنظيم خدمات الكهرباء والإنتاج المزدوج، والذين أتت مطالبهم من خلال ما اتضح لهم أن تغطية خدمات الصرف الصحي في السعودية تبلغ حاليا درجات متدنية لا تصل إلى درجة الطموح والمأمول في بلد بدأ ينمو سريعاً ويشهد حركة اقتصادية قوية في الآونة الأخيرة. ووفقاً لخطة التنمية الثامنة عن قطاع المياه، فإن نسبة التغطية بالمعدل المتوسط تبلغ نحو 30 في المائة فقط من الحجم الإجمالي لكميات مياه الصرف الصحي، مما يعني وجود عجز يبلغ 70 في المائة لخدمات الصرف الصحي في السعودية، بينما تشير بعض التقديرات الحديثة إلى أن العاصمة الرياض تمت تغطيتها بنسبة 50 في المائة فقط، وجدة بنسبة 20 في المائة فقط.
وأشارت الدراسة التي أعدت أخيرا أن هناك دراسات سبق أن أجريت لتقييم خدمات الصرف الصحي في السعودية، أثبتت أن كميات مياه الصرف الصحي التي يتم جمعها في شبكات التجميع، وتتم معالجتها في السعودية تبلغ نحو 1.5 مليون متر مكعب في اليوم، وعلى افتراض أن نحو 90 في المائة من المياه التي تستخدم داخل المدن تتحول إلى مياه صرف صحي، مما يوضح أن أنظمة الصرف الصحي بنوعيها الموجودين في السعودية من المحطات والشبكات القائمة في المدن تستوعب نحو40 في المائة فقط من مياه الصرف الصحي المتوقعة، بينما يتسرب الباقي (نحو 60 في المائة) إلى باطن الأرض عن طريق النظام التقليدي المتبع في أغلب المناطق، إما عن طريق خزانات الترشيح وإما نظام الخزانات (البيارات)، علما أنه ما زال هناك عدد من المدن والقرى التي لا توجد فيها شبكات أو محطات للصرف الصحي تعتمد بشكل كلي على نظام "البيارات" الذي يهدد بأزمات صحية وبيئية في حالة الاستمرار فيه.
وأرجعت الدراسة أسباب تأخر توفير هذه الخدمة في العديد من مدن السعودية إلى التكاليف الباهظة لمشاريع الصرف الصحي التي تعد من أهم المعوقات التي تواجهها، لافتة إلى أن المبالغة في اختيار معايير التصميم للشبكات والمحطات لها دور بارز في التأخير بالإضافة إلى عدم الدقة في اختيار أنظمة المعالجة التي تؤدي إلى تضخم غير مبرر لهذه المشاريع التي تعد أيضاً من الأسباب المهمة في ارتفاع تكاليف هذه المشاريع.