منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (34)

منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (34)

منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (34)

[email protected]

اصطبغ الفكر الاقتصادي في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وألمانيا وغيرهما عموماً بصبغة حمائية التوجه بشكل قوي. فطبقاً لوجهة النظر السائدة آنذاك، ربما كانت التجارة الحرة سياسة ملائمة بالنسبة لبريطانيا ولكنها ليست ملائمة للظروف الاقتصادية للدول حديثة العهد بالتصنيع.
أما الموقف الأسترالي إزاء الحماية فقد استمد اسمه من التوجهات السياسية التي سادت في أستراليا في الربع الأول من القرن العشرين والمناقشات التي دارت حول آثار التعرفات الأسترالية المفروضة على الواردات. والخلاصة أن هذا الجدل والطروحات المتباينة ما بين مؤيد ومعارض لم تشكل أبداً اتهاماً مباشراً للتجارة الحرة، بل بينت أنه ليس بالضرورة أن تكون كل الجماعات في اقتصاد ما في موقف يمكنها من الاستفادة من التجارة الحرة. ومن التساؤلات البارزة التي أثيرت على سبيل المثال: "إذا كان بعض الأفراد أو الطبقات الاقتصادية أسوأ حالاً في ظل التجارة الحرة، فهل يكون في وسع علماء الاقتصاد المحاججة بأن التجارة الحرة تكون لها اليد العليا والتفوق على الحماية على أساس علمي دون إصدار حكم تقويمي ضمني حيال توزيع الدخل؟".
تلا الجدلية الأسترالية على الفور نقاش حول هذا التساؤل: "إذا أصبح الأفراد أو الجماعات أسوأ حالاً نتيجة للتجارة الحرة، فكيف يكون في مقدور خبراء الاقتصاد أن يناصروا مثل هذه السياسة دون إصدار حكم تقويمي Value Judgment ضمني حيال الرغبة في إجراء توزيع معين للدخل؟" أما القضية الأعمق جذوراً خلف هذا التساؤل المطروح فكانت الإشكالية المنهجية الشائكة حول ما إذا كان في الإمكان توظيف النظرية الاقتصادية للتوصل إلى نتائج بشأن آثار السياسة الاقتصادية على رفاه المجتمع. وظل الجدل دائراً إلى أن طرح بول سامولسن Paul Samuelson في مؤلفه مكاسب التجارة الدولية في عام 1939م ما عدَّه علماء الاقتصاد المعاصرون الخطوة الواضحة الأولى في اتجاه الإثبات الشافي للمكاسب التي تحققها التجارة الحرة. فقد أثبت كيف يستطيع البلد الذي ينتهج التجارة الحرة شراء حزمة السلع التي كان سيحوزها في ظل الاكتفاء الذاتي، وبالتالي لا يكون أسوأ حالاً في ظل التجارة الحرة، ولكن (سامويلسن) لم يستطع إثبات أن التجارة الحرة هي الخيار الأفضل مما عداه لكل بلد، ولكنه أثبت على الأقل أن بعض التجارة أفضل من لا تجارة على الإطلاق.
يعد عالـم الاقتصـاد الإنجليزي جـون مينـارد كينز John Maynard Keynes من بين أعظم علماء الاقتصاد في القرن العشرين، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق عبر التاريخ كله. وقد حاجج كينز بضرورة التخلي عن التجارة الحرة لصالح الحماية على ضوء الظروف الخاصة التي كانت تجتازها بريطانيا. واقترح كينز استخدام التعرفات للمساعدة على توسعة الناتج وزيادة التوظيف، وقد تركت آراء كينز أثراً عميقاً على النظرية الاقتصادية وعُدَّت إضعافاً لحجة التجارة الحرة لعقود.
بدأ كينز حياته العملـية مؤيداً عنيداً لقضية التجـارة الحرة وعمـل أميناً لرابطة التجارة الحرة في جامعة كمبريدج، وحاجج لصالح التجارة الحرة في عـدة مناظرات أعلن في أحداها: "علينا أن نتمسك بمبدأ حرية التجارة حتى عندما لا نتلقى معاملة بالمثل، وحتى عندما تكون اقتصادية تعود علينا. علينا أن نتمسك بالتجارة الحرة كمبدأ وثيق الصلة بالأخلاقيات الدولية، لا كمذهب من مذاهب المنفعة الاقتصادية فحسب".
واستخدم كينز أقسى الألفاظ في مهاجمته المزاعم القائلة إن التعريفات تخفف من حدة البطالة، حيث قال: "إذا كان هناك شيء واحد لا تستطيع الحماية القيام به فهو معالجة البطالة".
غير أن كينز خفف من موقفه بحلول عام 1928م مقترحاً ضرورة إسناد قضية التجارة الحرة مستقبلاً لا على أساس مبادئ مجردة مثل دعه يعمل Laissez-Faire التي تتقبلها قلة من الناس الآن، بل على أساس المنفعة الفعلية والفوائد التي تعود من مثل هذه السياسات. ولقد أفسح هذا التراجع المجال لموقف أكثر فاعلة تجاه التجارة الحرة في عام 1930م لأنه كان قائماً على الظروف الجديدة التي أحدثت تغيرات في إطاره النظري. وأصبح كينز يحاجج بأن فرض التعريفات على الواردات قد يساعد على تعزيز الناتج الكلي والتوظيف، وبالتالي تحسين الميزان التجاري. بل لقد أعلن أنه أصبح مقتنعاً على مضض أنه يجب إدخال بعض التدابير الحمائية، كل هذه التحولات من جانب كينز جاءت على خلفية الكسـاد العظيم وأزمته المتجدرة. وفي بياناته وكتاباته المتعددة حاجج كينز بأن القضية الجلية للتجارة الحرة قوضها إخفاق مرونة الأجور في العمل بكفاءة كآلية توازن، غير أن علماء اقتصاد آخرين بارزين ردوا على آراء كينز بتشكك عميق، وبعدائية صريحة وهاجموا التعرفات بكل عنف. والواقع أن آراء كينز أوجدت تحدياً حقيقياً للتجارة الحرة وخلقت آراءه فجوة واسعة متباعدة عن آراء الأنصار التقليديين للتجارة الحرة.
وعلى الرغم مما صدر عن كينز من ملاحظات من حين لآخر منتقصاً من مكاسب التجارة الحرة، فلقد ثمّن العقد العشرين فوائد آرائه. وفي غمرة الكارثة الاقتصادية التي ألمت ببريطانيا والقيود التي فرضتها اعتبارات سياسية، اعتنق كينز مبدأ التعرفات كوسيلة، أو كإجراء يائس لتشجيع الانتعاش الاقتصادي. ومع ذلك كان كينز في الغالب الأعم نصيراً للتجارة الحرة، ورغب في استخدام التعرفات كوسيلة ضئيلة وقصيرة الأمد لإصلاح علل الاقتصاد الكلي، بدلاً من أن يقف متفرجاً ومكتوف اليدين لا يفعل شيئاً، وسعى كينز للاعتماد مؤقتاً على التعرفة كبديل معقول في ضوء الظروف الاقتصادية الخانقة.
منذ نحو مائتي سنة ونتيجة لمؤلَّف آدم سميث "ثروة الأمم"، في المقام الأول، حققت التجارة الحرة مكانة فكرية لا يدانيها أي مذهب آخر في علم الاقتصاد. وعلى الرغم من أنها ظلت عرضة للتمحيص المكثف والتدقيق طوال قرنين منذ ذلك الحين، نجحت التجارة الحرة وإلى حد بعيد في الحفاظ على هذه المكانة الخاصة التي تبوأتها. أما القوة المذهبية للتجارة الحرة فمستمدة من مفهوم اقتصادي جوهري تماماً مثلما في وسع الأفراد تحقيق المكاسب من التبادل الطوعي للسلع فيما بينهم، في وسع الدول كذلك أن تكسب نتيجة لتبادل السلع عبر الحدود، وتتأتى المكاسب من التجارة من خلال تقسيم العمل وتخصص الأفراد أو الدول في إنتاج سلع معينة. وتنطبق فوائد التخصص والتجارة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والمدينة والإقليم والأمة جمعاء.
ويعود الفضل لمذهب الاقتصاد العالمي Universal Economy إلى آدم سميث في تناول الفكرة الأساسية القائلة بأن التجارة الدولية تستطيع زيادة الثروة الكلية للدول، ومع أن معظم الفلاسفة والمفكرين قبل آدم سميث لم يضحضوا المكاسب من التجارة، فإنهم اعتقـدوا جميعاً بعـدم حرية التجارة، بل إن أصحاب المذهب التجاري Mercantilists، اعتقدوا أن فرض القيود الملائمة على التجارة الدولية يستطيع تنمية وتطوير الموارد الاقتصادية لمدى أبعد مما يمكن للتجارة الحرة أن تفعله، وقد برر آخرون مثل هذه القيود لأسباب غير اقتصادية.
أما معارضو القيود على التجارة فقد ردوا بالقول إن التجارة الدولية نتيجة مرغوبة من أجل تقويم مختلف، مقاس بأسعار السوق، للأشياء في أماكن مختلفة حيث يتم نقل السلع من أقاليم الوفرة إلى أقاليم الندرة، وأعتقد هؤلاء أن العوائق التجارية من شأنها أن تدمر العلاقات التجارية المجزية، ومن غير المحتمل أن تعمل في حد ذاتها على توليد ثروة إضافية وزيادة فرص العمل. ومع ذلك حاجج بعض الكتاب بأن حرية التجارة المطلقة تمثل أفضل وسيلة للاستفادة من فرصة الاتجار مع الآخرين.
وجاء آدم سميث أخيراً ليؤكد فرضية قوية لصالح الفوائد الاقتصادية للتجارة الحرة، وبحججه القوية ضد الحماية ولصالح التجارة الحرة، جعل سميث من الصعب على الآخرين مناصرة قضية التجارة الحرة من خلال نظرية الميزة النسبية، وهي الصخرة التي تستند إليها قضية التجارة الحرة حتى يومنا هذا.
وكما لم يكن المفكرون الاقتصاديون قبل (آدم سميث) حمائيين تماماً في توجهاتهم فإن من جاءوا بعده كذلك لم يتقبلوا التجارة الحرة كمبدأ مسلَّم به تماماً. لقد أورد سميث حججاً قوية لصالـح التجارة الحرة وضد الحماية، إلا أن ذلك لم يحسم هذه المسألة تماماً بين علماء الاقتصاد، ومنذ عهد سميث وعلماء الاقتصاد يسعون جاهدين لتفهم حدود مذهب التجـارة الحرة، وبالتالي استكشفوا العديد من القضايا التي يمكن أن تكون الحماية فيها مفيدة.
من جهة أخرى، كانت معدلات التجارة Terms of Trade بمثابة الرفض الاقتصادي الأقوى ضد التجارة الحرة على الإطلاق، فلو أن جهة ما كانت تتمتع بنفوذ كبير في السوق، بمعنى أنها كانت قادرة على التأثير في سعر السوق لناتج تلك الجهة فلربما ترى تلك الجهة أن من الأنسب لها ممارسة ما لديها من سلطة ونفوذ في السوق من خلال تقييد منتجاتها بقصد رفع أسعارها. والشيء ذاته لو كانت النسبة التي تتبادل دولة ما منتجاتها مع باقي دول العالم تعتمد على حجم صادرات تلك الدولة ووارداتها، فإن القيود الحكومية على التجارة تحمل في طياتها عندئذ القدرة على التلاعب بتلك بنسب على نحو يحقق لها مكاسب أكبر. ولهذا فإن التعاون الدولي لإرساء قواعد التجارة الحرة يمكن أن يسيطر على الأوضاع، حيث تسعى كل الدول إلى التأثير في معدلات تجارتها من خلال القيود التجارية.
وكذلك اعتقد البعض أن الحماية لها الأولوية على التجارة الحرة وتتفوق حجتها عليها في العديد من المجالات أيضاً، والتي يعتمد العديد منها على الفرضية القائلة بوجود اختلافات جوهرية بين الزراعة والصناعة، أو بين القطاع الأولي والصناعات التحويلية. فمن عهد مذهب التجاريين في القرن السابع عشر وحتى الآن، يعتقد أن للتصنيع مزايا تفوق مزايا الزراعة، أو لصناعات تحويلية معينة مزايا على صناعات أخرى، وعلى نحو لا تأخذ السوق هذه المزايا في الاعتبار تماماً، أي لم تنعكس في أسعار السوق وبالتالي لم يقر بها المشاركون في السوق، وقد أدت هذه المعتقدات إلى حجة التفاوت في الأجور و وحجة الغلة المتزايدة وحجة السياسة التجارية الاستراتيجية.
وخلال الفترة من مطلع القرن التاسع عشر إلى منتصفه نجد أن الاقتصاديين الكلاسيكيين أيدوا وبقوة التجارة الحرة كفرضية نظرية لأن نظرية التكاليف النسبية رفعت التجارة الحرة فيما يبدو إلى مكانة غير مسبوقة من الحقيقة العلمية. وقد عد الاقتصاديون الكلاسيكيون والاقتصاديون الجدد الأوائل التجارة الحرة أمراً مسلماً به. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر بدأت ثقة الاقتصاديين تفتر في التجارة الحرة. وبعد ذلك بعدة سنوات عكس فرانك توسغ Frank Taussig وجهة النظر القائلة إن الثقة في التجارة الحرة بين الاقتصاديين قد تآكلـت، وبعد ذلك بـ 40 سنة تقريباً أعلن بول كروجمان Paul Krugman عكس السياسة التجارية الاستراتيجية والتقدير المتجدد للغلة المتزايدة وأن قضية التجارة الحرة أصبح يخيم عليها الشك أكثر من أي وقت مضى.
وبذلك فتح المجال لتصبح التجارة الحرة واحدة من أشد الأطروحات قوة وديمومة، والتي يتعين على المحللين والخبراء التمرس فيها من أجل توجيه دفة السياسات الاقتصادية لصالح بلدانهم.

الأكثر قراءة