الأولوية الأمريكية في العراق بين تحقيق المصالح وإقامة الديمقراطية

[email protected]

تابعت وسائل الإعلام العربية والعالمية التراشق الإعلامي الذي ثار خلال الأيام الأخيرة بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وقيادات بارزة في الكونجرس الأمريكي حول صلاحيته وحكومته لقيادة العراق في هذه المرحلة الحرجة، وهي المتابعة التي زادت كثافتها بدخول الرئيس الأمريكي جورج بوش بنفسه على ذلك التراشق بتصريحات ناقدة أولاً للمالكي ثم بأخرى مناقضة لها تمتدح شخصيته وأداءه. وبالترافق مع ذلك التراشق والجدل حول صلاحية وقدرات الحكومة العراقي ورئيسها، صدرت تصريحات أخرى أكثر خطورة وأهمية من الرئيس بوش وبعض القيادات العسكرية والدبلوماسية الأمريكية العليا في العراق، تتعلق بالتصور الأمريكي لحاضر العراق ومستقبله ويكشف بعضها عن حقيقة الدوافع الأمريكية لاحتلاله.
الرئيس بوش وفي كلمة ألقاها أمام جمعية قدامى المحاربين في الولايات المتحدة بمن فيهم أولئك الذين شاركوا في حربي كوريا وفيتنام، أكد أن العراق يمثل مصلحة استراتيجية لبلاده ولذلك فإنها لن تتخلى عنه، معتبراً أن الانسحاب منه قبل استكمال المهمة فيه سيكون "مشيناً" وستكون له نتائج وخيمة على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. وبالرغم من إقرار الرئيس الأمريكي بارتكاب بلاده أخطاءً في العراق، فإنه لم يتطرق إلى ذكر أي منها بوضوح وتفصيل، مؤكداً في الوقت نفسه أنه سيواصل دعم قوات بلاده الموجودة به حتى تحقق النجاح في مهمتها التي وصفها بأنها السعي لتحقيق حياة كريمة لشعوب الشرق الأوسط. وفي إشارة غير مباشرة إلى مضمون تلك الحياة الكريمة التي يقصدها الرئيس الأمريكي، أشار بوش إلى أن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط إنما يصب في الجهود المبذولة للمساعدة على إقامة ديمقراطية فتية في منطقة الشرق الأوسط. بالرغم من كل تلك "الشروح" التي قدمها الرئيس الأمريكي لمبررات احتلال بلاده للعراق واستمرار دعمه بقائها فيه، فقد بدا واضحاً من مجمل حديثه أن الدافع الحقيقي يكمن فيما ذكره حول مصالح بلاده الاستراتيجية فيه، والتي مثلت الحرب على الإرهاب وإقامة الديمقراطية والقضاء على أسلحة الدمار الشامل مجرد حجج شكلية لتغطية هذا الدافع الحقيقي.
وتأكد هذا الأمر بالتصريحات الموازية والسابقة على ما قاله الرئيس الأمريكي والتي صدرت عن بعض من أبرز القادة العسكريين الأمريكيين في العراق والتي تناولت تصورهم لما يجب على بلادهم القيام به الآن فيه وفي المستقبل. فقد صرح جنرالان أمريكيان كبيران بأنه بالرغم من أن أحد الأهداف المعلنة لإدارة بلادهم لغزوها العراق هو إقامة حكومة ديمقراطية وسيادية فيه، فإن الأهداف لم تعد نبيلة وسامية كما كانت في البداية، وأن الوقائع الجارية في العراق تؤكد أن "المؤسسات الديمقراطية ليست هي بالضرورة الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تقود البلاد للأمام على المستوى البعيد". ومضى الجنرالان أبعد من ذلك لكي يتحدثا بوضوح عن أن الأولوية اليوم هي تحقيق الأمن والخدمات في العراق، وهما الهدفان اللذان يتطلبان حكومة فاعلة قادرة لا يجب أن تكون بالضرورة ديمقراطية. وقد أشار أحد هذين الجنرالين بصورة أوضح إلى أنه لم يعد مهتماً فيما إذا تم تحقيق الأهداف من دون ديمقراطية، مؤكداً أن ما تحتاج إليه بلاده في العراق إنما هو حكومة فاعلة يمكنها أن توفر الأمن والخدمات لشعبها وأن تكون شريكة للولايات المتحدة وبقية دول العالم في الحرب على الإرهاب. ومضى القائدان العسكريان الأمريكيان أبعد من ذلك في تبريرهما لتراجع دعم بلادهما لقضية دعم الديمقراطية في العراق بالقول إن هذه الديمقراطية ليست سوى مجرد خيار بالنسبة لكل دول الشرق الأوسط، وأن العراقيين أحرار في أن يقبلوها أو يرفضوها. ولم تمض سوى ساعات أخرى قليلة حتى تأكد هذا التوجه الأمريكي الرسمي الذي يعلن صراحة للمرة الأولى منذ غزو العراق، حيث أصدر كل من السفير الأمريكي وقائد القوات الأمريكية فيه بياناً أكدا فيه ما سبق لبلادهما أن أعلنته من دعمها الديمقراطية في العراق، إلا أنهما اعترفا بوضوح على ذلك الصعيد بأنهما مشغولان الآن في العراق بوضع وتحقيق أهداف أقل طموحاً مما كان عليه الأمر في البداية، فيما يفهم منه عدم تنصلهما الكامل مما قاله الجنرالان الأمريكيان.
هكذا تبدو الأهداف الأمريكية الحقيقية في العراق بعد نحو أعوام خمسة من غزوه واحتلاله كما توضحها تصريحات قياداتها العليا السياسية والعسكرية والدبلوماسية بدءاً من الرئيس بوش نفسه، والتي تضع المصالح الاستراتيجية الأمريكية بمختلف أنواعها وصورها في مقدمة أولويات واشنطن في حين تعود الديمقراطية التي طرحت في البداية كهدف "نبيل" للغزو والاحتلال إلى مكانها الحقيقي في مؤخرة الأهداف والصورة. وليس ذلك فقط، فالآمال والتوقعات التي بثتها الدعاية الأمريكية الرسمية في الفترة الأولى لغزو العراق في نفوس محبي ومؤيدي السياسة الأمريكية حول سعي واشنطن إلى تطبيق الديمقراطية في كل منطقة الشرق الأوسط الكبير تبدو اليوم وكأنها مجرد سحابة صيف سرعان ما انقشعت من السماء لتعود الحقيقة الأصلية ساطعة تغشي الأعين، وهي أن كل تلك الأموال الأمريكية التي أنفقت في العراق والدماء التي سالت فيه ومعظمها من العراقيين لم يكن الهدف منها سوى حسب ما قاله الرئيس بوش نفسه وهو تحقيق المصالح الاستراتيجية لبلاده.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي