المزمار .. تجليات الجسد والنار
فاتحة القلب
يا ليلاه ياليه ياليه..
لعن أبو عشقة الجاهل
الجاهل ما في قلبه محنيه
من وحي المزمار
تتمايز الشعوب بفنونها, وتتباين باختلاف مشاربها الثقافية وأنساقها الإنسانية, ويبقى لكل خصوصيته وفلكلوره الشعبي, بما يحويه من ممارسات وسلوكيات وفنون مختلفة من شعر ورقص وغناء وحكايا وقصة ومأثورات وحرف وعقائد وأساطير وخرافات .. إلخ.
وفي بلاد الحجاز المترفة بالأدب والفن والجمال يتنامى إلى ذهنية المهتمين والمولعين بالمظاهر الشعبية المتغلغلة في عروق الحجازيين الجميلين .. فن المزمار.
والمزمار هو رقصة شعبية أخاذة تمتزج فيها الحماسة بقرع الطبول وأهازيج المرددين على إيقاع النار, إذ تشعل النار في الوسط ويتحلق حولها الراقصون يلوحون بغناء شفيف.. عذب يلهب المشاعر ويوقد حميمية اللقاء. بينما ينزل الراقصان يحمل كل واحد عصا يستعرض بها مهاراته متنقلة بين أصابعه المرفوعة باتجاه السماء, يدوران في مسرحية بهيجة وخفة تفيض بالنشوة.
وقد يحث الشاعر خالد مصطفى في دراسته "تجربة الدم" كل ما يتعلق بهذا الفن العريق, حيث لملم شتات هذا اللون وأشبعه طرحا بمجهود رائع وتوثيق مدروس. فبوب بحثه بعدة أبواب مبتدئا بتعريف الفلكلور الإنساني بشكل عام, ثم استعرض الرقصات الشعبية المتعارف عليها في مناطق المملكة, دخولا إلى مبحثه الأهم "فن المزمار" تعريفه ونشأته جوانبه البصرية من الأداء الحركي إلى الألبسة إلى الأدوات المستخدمة كالنار والعصا وأبعادها الحركية والأيديولوجية لدى المواطن الحجازي, ثم عرج إلى الاستشهاد بنصوص دالة ونماذج مشرقة لهذا الأثر الذي بات مهددا بالانقراض.
وخلص الباحث إلى أن هناك انكسارا في سياق اللعبة/ الرقصة حيث أورد أن:
المزمار ارتبط بالشعب من قبل ذوي النعرة الشريرة والفوضويين الذين حين ينتشون بالرقص والغناء يحولون أرض المزمار إلى ساحة للقتال فيصير النغم دما والبساطة ثأرا وبغضاء. وهذا من أبرز الأسباب التي أسهمت في خفوت ناره وتهميشه. إضافة إلى نشوء جيل جديد ذابت هويته الفنية في تيار الغناء الهابط, حتى تلاشت هذه الفنون الأصيلة من مخيلته الشعبية واقتصر إحياؤها في بعض المناسبات والأفراح.
وحول أصل التسمية "المزمار" ذكر الباحث أن المزمار آلة موسيقية من آلات النفخ تشبه الناي الذي يخلق الأنغام الشجية ويستخدم في العزف لهذه الرقصة.
وتقول الباحثة الحجازية هند باغفار: "منذ ازدهار العهد الفاطمي في شمال إفريقيا ظلت وفود الحجيج تفد إلى الحجاز وحمل الكثير منهم آلة المزمار الذي استهوت أنغامه الجميلة الحجازيين فكانوا يوقعون بأجسادهم حركات راقصة تسمى لعب, وفي البدء ظل ذلك يتم بشكل فطري وبسيط ثم لم تلبث أن أدخل على رقصة بعض الآلات الشعبية المعروفة بالحجاز".
وكما أسفلت سابقا أن الباحث الجميل خالد مصطفى وهو شاب مكي عتقته التجارب الحجازية المضيئة, تناول في بحثه هذه الجوانب البصرية والدلالات الحركية لهذا اللون الشعبي الفرائحي في قراءة سيميائية.
وفي هذا الجزء تعرج إلى "جوانبه البصرية" من الأداء الحركي إلى الألبسة وفلسفة اللون, ومدلولات النار والعصا المشكلة لسيميائية هذا الفن الحجازي.
الأداء الحركي
ارتبط الأداء الحركي لمعظم الفنون الفلكلورية الحماسية بإيقاع الحرب وتعبئة النفوس وشحن الهمم, إذكاء روح الحماس وإشعال جذوة الشجاعة والإقدام, حيث يتجلى ذلك في رقصة المزمار ما يشبه رقصة المحارب حينما ينزل إلى أرض المعركة ثم يبدأ بالتلويح بعصاه التي يحملها في حركة استفزازية لخصمه وذلك لدعوته للنزال والعراك.
اللباس وفلسفة اللون
يذكر هذا الباحث أن الجانب البصري مهم في هذا الفن، حيث إن المتفرج يتابع ويتلذذ بالمشاهدة، لذا فإن أهمية اللباس والألوان المستخدمة لا تقل أهمية عن الأداء الحركي والصوتي المصاحب لطقوس المزمار. وليس هناك لبس خاص بالرقصة كفن، بل إن اللباس يشكل امتدادا للألبسة الحجازية المستخدمة في سياقها الاجتماعي آنذاك، من ثوب وصديرية وحزام وشال وكوفية، يعتمرها الراقص على أنغام المزمار.
وقد تختلف الألبسة في بعض التفاصيل الصغيرة وذلك حسب المهنة والمكانة الاجتماعية، فقد يتمايز ملبس أرباب المهن عن ملبس التجار أو العلماء أو طبقة الشباب المتعلمين.
ويشدد الباحث على قيمة اللون الحيوية وأبعاده الجمالية والفلسفية ومدى تأثير ألوان الألبسة في المشاهد، حيث يعتمد فلسفة اللون في رقصة المزمار على عدة ملامح: "جمالي، أسلوبي، نفسي، أيدلوجي، واجتماعي"، فصفرة "الحزام" يوحي بالحيوية والنشاط والمرح، واللون البني لـ "الصديرية" يبث الحرارة ويشجع على التخيل والتجلي، وبياض "الثوب" وهو سيد الألوان يشترك مع بقية الألوان في تآلفٍ بهيج.
النار
اجتر الباحث مدلولات النار عند العرب وفي سياقها القرآني الكريم، ولكن ماذا تعني النار في رقصة المزمار؟ فقد ذكر الباحث أن النار تحقق معنى ماديا وآخر معنويا، فهي لإشعار الفرح والبهجة والألق، وإثارة حماس الراقصين والجمهور، كما تستخدم في شد رقاع الطبول لتحسين إيقاعها.
العصا
وهي رمز القوة والمساعدة والدفاع عن النفس، وفي المزمار تمثل العصا رمزا وأداة للدفاع والهجوم أيضا، وهي معيار لحرفنة الراقص وبراعته في استخدامها للرقص، حيث يتفنن في التلويح بها ومناقلتها من يد إلى أخرى، وتظهر حرفته في الرقص المستمر والعصا تتلوى بين أصابعه بشكل دائري مذهل، وهنا أيضا يتضح خفة الراقص ومهاراته الحركية في التعامل مع خصمه، عندما يشتد الإيقاع وتشتعل النار في عروق الليل.
الأهازيج أو "النصوص الغنائية"
يرتبط هذا الفن ـ كسائر الفنون الأخرى ـ بأهازيج ونصوص مرتبطة بالبيئة الاجتماعية الحجازية، نصوص حماسية/ رجولية تتغشاها تارة غزليات حميمة، وتارة عبارات استفزازية.
أخيرا تبقى الدراسات قاصرة، والمباحث الاستقرائية متواضعة، أمام هذا الموروث المهول الذي تختزله الذاكرة الحجازية النقية، ذاكرة تستعصي على طوفان التغييب والتهميش الإعلامي، ذاكرة حرة لم تلوثها بعد حضارة المدنية الزائفة، حضارة هشة شوهت معالم الجمال في نفوسنا، وأحالتنا إلى أجساد متهالكة .. معلبين في مدننا الأسمنتية الكئيبة .. ويكفي.
من دفتر الغي... ـــم
سلّيم سلّيم.. ويش اسوي بمحبوبي
تلقى الخلا.. وأعطى المفاتيح عبد الله
ويا وارد الما.. اسقني شربيت
واللي سقاني.. ما يخاف الله!