ريالنا وصراع العملات الدولية
من الواضح أن صراع المنافسة بين القوى الاقتصادية الكبرى في العالم يزداد حدة. وانعكست حدة هذا الصراع في السنوات الأخيرة على أسعار صرف العملات الدولية. ومع أن الاقتصاد الأمريكي ما زال أقوى اقتصاد في العالم من ناحية حجمه المطلق، إلا أن قوته التنافسية النسبية تجاه الاقتصاد الأوروبي والياباني والقوى الاقتصادية الصاعدة في الشرق كالاقتصاد الصيني والهندي آخذة في التراجع. آية ذلك العجز المستمر والكبير في ميزان تجارة أمريكا مع بقية دول العالم.
التغيرات في مراكز القوى العالمية لا تحدث فجأة، وإنما تدريجيا. وقد سبق أن حل الاقتصاد الأمريكي محل الاقتصاد البريطاني في صدارة الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. لكن أمريكا اليوم تستورد أكثر مما تصدر، ولأنها تدفع مقابل وارداتها بالدولار، فقد زاد المعروض من الدولارات في السوق العالمي. والعملة شأنها شأن أي سلعة، إذا زاد عرضها انخفضت قيمتها. ولم يسبق أن كانت العملة الأمريكية عملة غير مطلوبة في أسواق العملات الدولية، كما هو حادث الآن.
الضغوط تتزايد على الدولار والجميع آخذ في تخفيف الحمل منه، والتوقعات السلبية تجاه الاقتصاد الأمريكي في ازدياد. فمجلة "الإيكونوميست" تتوقع أن يكون معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام أقل في أمريكا عنه في أوروبا وأستراليا وكندا. ومن ناحية أخرى، فإن ارتفاع أسعار النفط يولد مزيدا من الضغوط على الدولار. وقد بدأت بعض البنوك المركزية العالمية المؤثرة كالبنك المركزي الصيني تنويع احتياطياتها لصالح اليورو. وتتوقع جريدة "الفاينانشيال تايمز"، أن المبيعات الرسمية من الدولار بلغت في النصف الأول من عام 2007م نحو 170 مليار دولار لصالح اليورو والجنيه الاسترليني. وأن الصين لوحدها تحتاج إلى بيع نحو 16 مليار دولار شهريا حتى لا تزيد حصة الدولارات عن النسبة المقررة للدولار في احتياطاتها. بل إن خبراء مؤسسات مالية دولية كميريل لينش ومورجان ستانلي، لاحظوا أن الأمر لا يقتصر على بعض البنوك المركزية الآسيوية، وإنما تعداه للصناديق الاستثمارية الأمريكية ذاتها. فمديرو هذه الصناديق باتوا يتحولون تدريجيا إلى تنويع الاستثمارات بعيدا عن الدولار منذ عام 2003م. وهم يقدرون جملة التدفقات بالدولار من قبل صناديق الاستثمار الأمريكية نحو الخارج، بنحو 1200 تريليون دولار خلال الأعوام الأربعة الماضية.
كما لاحظ العديد من المتخصصين المراقبين لأسواق العملات الدولية، مثل ديفيد بلوم مدير استراتيجية العملة لدى بنك HSBC، ودانيال كاتزيف محلل العملات لدى بنك USB، أن استمرار تراجع بعض القطاعات المهمة في الاقتصاد الأمريكي، وضبابية المؤشرات المتعلقة بالتوجهات الاقتصادية للولايات المتحدة في الأشهر المقبلة، قد أثر في حجم الاستثمارات العالمية المنفذة على الدولار أو بواسطته، بحيث إنها أصبحت أقل من المتوقع وتتسم بالخشونة والبطء. وبينما يتنبأ المراقبون أن ترتفع أسعار الفائدة في الاقتصادات الأخرى، يتوقعون بقاءها دون تغيير في الولايات المتحدة. ولذلك تحرك المستثمرون بعيدا عن سوق السندات الأمريكية نحو أسهم الشركات الأوروبية التي تتسم بفرص نمو أفضل في منطقة اليورو. وتنقل جريدة "الفاينانشيال تايمز" عن السيد بلوم اعتقاده أن مخاوف المستثمرين من سوق ديون الشركات الأمريكية مسؤولة عن إزالة 25 في المائة من قيمة الدولار مقابل اليورو منذ نهاية الشهر الماضي!
وبالنسبة لنا، قدرت بعض الدراسات الخليجية أن عملات دول مجلس التعاون الخليجي فقدت 25 في المائة من قيمتها في السنوات الثلاث الماضية جراء بقاء ارتباط عملتها بالدولار. ودولنا في الواقع تدفع ثمن مشكلات الاقتصاد الأمريكي دون أن تكون سببا فيها. ولا شك أن استمرار هذا الربط دون الاستعداد الفعلي للتفكير في تحرير عملاتنا وتنويع احتياطيات بنوكنا المركزية بعيدا عن الدولار، سيجعلنا رهينة لعدم استقرار العملة الأمريكية الآخذة في مزيد من التراجع، وسيكبدنا مزيدا من الخسائر في عملاتنا الخليجية ويولد مزيدا من الضغوط التضخمية.
وجاء إجراء البنك المركزي الكويتي بربط الدينار بسلة عملات ليصب – كما أراه - في هذا الاتجاه الاستعدادي. وعلى الرغم من أن آخر التقارير الصادرة من الكويت تشير إلي أن هذا الإجراء لم يكن له أثر كبير في كبح جماح التضخم في الاقتصاد الكويتي في الأشهر القليلة الماضية، إلا أنه ينبغي ملاحظة عدة أمور منها:
1- صعوبة قياس أثر التضخم بصورة دقيقة خلال فترة زمنية قصيرة.
2- إن الإجراء الكويتي وإن لم يخفض معدل التضخم بدرجة كبيرة، إلا أنه على الأقل امتص قدرا منه ولم يسمح بتصاعده بوتيرة عالية.
3- سبق أن أشرت غير مرة، إلى أن تأخير اتخاذ القرارات السليمة في الوقت المناسب يقلل من فعاليتها. لقد تأخرت دول الخليج عن حماية عملاتها من تقلبات الدولار، فاتسعت الفجوة بينها وبين بقية العملات الدولية اتساعا كبيرا وصلت إلي الربع في السنوات الثلاث الأخيرة، وإلى الثلث خلال فترة أطول. فإذا جاءت اليوم لتجري تعديلا طفيفا في سعر العملة، فلن تجد له أثرا سريعا وملموسا في كبح جماح التضخم خاصة في ظل تضافر مسببات أخرى للتضخم كتنامي الإنفاق الحكومي وزيادة حجم السيولة واستمرار سيطرة الاحتكارات على بعض الأنشطة وقِدم الأنظمة التجارية. ودولنا بالطبع – شأنها شأن أي دولة أخرى - لا تستطيع أن تجري تعديلا كبيرا في سعر الصرف في لحظة واحدة.
4- إن الإجراء الكويتي يمكن أن يفهم على أنه إجراء استباقي وإصلاحي حان وقته لتقليل مخاطر زيادة اتساع الفجوة المتوقعة بين عملتها وبقية العملات الأخرى مع استمرار تراجع الدولار مقابل تلك العملات. وفي الوقت نفسه، فهو سيحمى استثمارات الحكومة الكويتية في الخارج، وسيخفض تكلفة الواردات، خاصة من منطقة اليابان وأوروبا.
باختصار، إن ضعف الاقتصاد الأمريكي واضطراب أسواق الائتمان فيه، وارتفاع فاتورة الواردات النفطية الأمريكية، عصفت بالدولار وجعلته يعيش أصعب فتراته. والأخطر هو أن التوقعات تشير إلى استمرار تراجعه. وهذا من شأنه أن يولد مزيدا من الخسائر والضغوط التضخمية على اقتصادنا. إن أبسط عمل يتوقعه المواطن هو أن يتلطف المسؤولون عن إدارة دفة اقتصادنا ويخبرونا عن تصوراتهم في كيفية حماية اقتصادنا والخطط التي سيتبنونها لعلاج التقهقر المطرد في مستوى معيشة الناس. الأوقات الصعبة تحتاج إلى إلى محنكين من طراز خاص، فأثناءها لا تكفي الحسابات الاقتصادية المجردة، علينا أيضا تقدير التكاليف الاجتماعية والأمنية المحتملة.