اللجنة الوطنية للإسكان ومشروع إسكان التقاعد

غريبة تلك الزوبعة التي أثيرت حول مشروع متواضع لشركة تابعة للمؤسسة العامة للتقاعد، وقد سبق أن قام به غيرها من قبل ودون الحصول على أرباح أو فائدة على القروض. وهي شركة منفصلة عنها وتقوم باستثمار أموال مواطنين تابعين لها سواء المتقاعدين أو موظفيها. ولعل سبب تلك الزوبعة هو توقيت إعلانها في وقت تتجه فيه أنظار المواطنين إلى تدخل الدولة لحل مشاكل الإسكان وخاصة المحتاجين إلى مساكن وتخفيض تكلفته. فهل المؤسسة فعلاَ ترغب في المساهمة في جزء من الحل؟! فالمؤسسة تقوم بمشروع استثماري بحت مماثل في قيمته وحجمه ما سبق من مشاريع إسكان لوزارة الدفاع ووزارة الداخلية وغيرهما من المؤسسات التي بنت مساكن لموظفيها أو أعطت قروضا لهم مثل "سابك"، "بترومين" و"أرامكو". ودون احتساب فوائد على القسط. بينما "التقاعد" تستثمر أموال متقاعدين هم في الأصل مواطنون وليس من واجبهم حل مشكلات غيرهم من جيوبهم. فحل مشكلة الإسكان يكمن في سياسات الدولة، لأنها تمس حياة كل مواطن وتساعد على الاستقرار الاجتماعي وأثره في التنمية الحضرية والاقتصادية للدولة. ويجب أن تقوم اللجنة الوطنية للإسكان بالتعاون مع المؤسسة العامة للتقاعد بإعلان توضيحي لتوضيح الالتباس للموضوع. ذلك أن هناك فرقا نوعيا ووظيفيا ومؤسسيا واضحا بين المؤسسة العامة للتقاعد واللجنة الوطنية للإسكان في أهدافهما وغاياتهما، وأنه يستحيل أن يجمعهما رابط أو مصلحة بل إنهما مختلفان ومتضاربان. ويستحيل أن توضع أموال المتقاعدين سبيلاَ للجميع.
فالإسكان وحده يستحق (وكما طالبت منذ أكثر من عامين) إيجاد هيئة عليا للإسكان بعد أن ألغيت وزارة الإسكان. والآن بعد قرار إنشاء اللجنة الوطنية للإسكان الشهر الماضي، متى سنرى حلولا مدروسة للإسكان وهمومه والتي هي الشغل الشاغل لمعظم دول العالم وتقوم عليه هيئات دولية مثل البنك الدولي ومؤسسات الإسكان وفي معظم دول العالم له هيئاته مثل الهيئة الفيدرالية للإسكان والتطوير العمراني HUD في الولايات المتحدة الأمريكية أو "هابتات" وغيرها من الهيئات في أوروبا.
ولأهمية الإسكان ودوره في استقرار المواطن لعلنا نستفيد من عرض لعدد من الشركات التي تقوم بحل مشكلة الإسكان في أكثر الدول تقدماَ في هذا المجال وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي يتكون الجهاز الهيكلي لحل المشكلة من أربع شركات كل منها له دور مختلف ومهم. وهي شركة فاني مي Fannie Mae وإدارة الإسكان الفيدرالي FHA تحت مظلة الهيئة الفيدرالية للإسكان والتطوير التي يقوم بالبحث عن حلول للإسكان وكيفية جعله سهلا أو مستطاعا. ثم شركة فريدي ماك Freddie Mac، هذا عوضاً عن دور البنوك والهيئات الأخرى في القطاع الخاص.
وشركة فاني مي هي شركة خاصة لتمويل الإسكان وتتداول في سوق الأسهم منذ عام 1930م. وهي أكبر مؤسسة خدمات مالية للإسكان غير بنكية في العالم. وتعمل تحت مراسيم فيدرالية (حكومية)، وقد وفرت خلال السنوات الثلاثين الماضية أكثر من ثمانية تريليونات دولار، واستفاد منها أكثر من 30 مليون عائلة. بينما تقوم إدارة الإسكان الفيدرالي بالتأمين فقط على قروض التمويل التي يقوم بها الممولون من القطاع الخاص. وهي بذلك تضع المقاييس والأنظمة للبناء ولكنها لا تقرض أو تمول أو تطور أو تبني مساكن. وأخيرا مؤسسة فريدي ماك في 1970م وهي تعمل بمراسيم من الكونجرس وتهدف إلى التأكد من ضخ السيولة في السوق لممولي المساكن بدعم القروض بضمانات حكومية وتوفير وسائل أفضل للتمويل.
ونلاحظ مما سبق أن هناك أربعة أدوار هيكلية أو مؤسسات مختلفة يجب أن توجد لحل مشكلة الإسكان. الأولى خدمات مالية للتمويل والثانية تأمين على القروض والثالثة ضخ السيولة ودعم القروض، بينما الرابعة وهي الأم تقوم الدولة بتمويلها للبحث والتطوير لحل مشكلات الإسكان وتخفيض تكلفة البناء وتوعية المواطنين إلى التعاون معها لحل المشكلة.
وهي هيئات تقوم بوضع السياسات والبرامج التوعوية والمالية لمساعدة المواطنين بمختلف شرائحهم وخاصة الشرائح المحدودة الدخل للحصول على سكن مناسب ومتوافق مع ميزانياتهم. كما تقوم بتوفير المنح للبحث والتطوير لنماذج البناء ومواده وكود للبناء. ومراقبة المخزون الحالي بالزيادة السكانية المستقبلية والتنبؤ بالأزمات. وله صناديقه المختلفة للتمويل والرهن والقروض وعلاقتها بسعر الفائدة والسوق المالية.
ويلاحظ أن الدولة لا تتدخل في عملية البناء الفعلي للمساكن بل تترك ذلك للقطاع الخاص من خلال اتحادات وتكتلات عقارية فقط والذي لا يقتصر على الإسكان بل يقوم بتلبية الطلب على مشاريع أخرى مكتبية وتجارية وصناعية وسياحية وترفيهية ويكون محركها وموجهها ودافعها الربح فقط.
 وكما أشرت في مقال سابق أن حل مشكلة الإسكان معقدة ومن المستحيل أن تجد عقاري يهمه حل مشاكل الإسكان وإن تظاهر بذلك. إلا إذا كان مربحاً له استثماري. لذلك فإنه من المستحيل أن يقوم العقاريون أو "التقاعد" بحل مشاكل الإسكان للفقراء أو المحتاجين، حيث إن برامج الإسكان الموجهة إلى تلك الشريحة عادة تحتاج إلى دعم حكومي.
 ولكن الأمر يتطلب وجود وضوح إداري ونظامي لحفظ حقوق الممولين من مشكلة عدم إخلاء المستأجر العقار ومشكلات العقار، فقد تدخلت وزارة التجارة لحل بعض تلك الأزمات عن طريق تنظيم المساهمات ووضع نظام صناديق الاستثمار العقاري. وبقي حل بقية المشكلات القانونية والتنظيمية والعدلية والتي تحتاج إلى تدخل بقية الوزارات بإخلاص ووطنية وصرامة وسرعة في اتخاذ القرارات وعدم التباطؤ تحت غطاء البيروقراطية القاتلة. أن إنهاء تلك الأمور أول عتبة لتشجيع الممولين والمستثمرين للمساهمة في حل مشكلات الإسكان.
 ومن هذا المنطلق فإنني أعتقد أن اللجنة الوطنية للإسكان، التي ضمت مجموعة من الوزراء الذين لديهم من المهام والواجبات والاستقبالات والمناسبات ما قد يشغلهم عن هذا الموضوع الحيوي المهم. كما أنهم سبق أن عايشوا المشكلة منذ تعيينهم ولم يتمكنوا من حلها، لأن الموضوع يحتاج إلى توظيف قدرات مؤهلة في مجال الإسكان والبحث العلمي المتصل به وبتخفيض تكلفة البناء وأنظمته ومواده ولتخطط لحل مشكلات الإسكان على غرار آخر ما توصلت إليه الدول التي سبقتنا في هذا المجال، وأن تحاول الاستعانة بتلك المؤسسات وبعض خبرائها في برنامج تعاوني لتدريب وتوظيف مواطنين على الاستفادة من البحث والتطوير. وأن يوظفوا كفاءات لمناقشة الموضوع لديها الخبرة الجيدة في مجال وتخصص الإسكان ومختصين لديهم خبرة سابقة وبحوث في هذا المجال أو أن يتم التعاون مع من سبقونا فيه، وأن يتم التعاون مع بعض المكاتب الاستشارية الوطنية المتخصصة. فالموضوع أكبر مما نتصور وعاشته بعض الدول أكثر من 30 عاما ولم تتمكن من حله بعد. فهل من سبيل إلى الخروج من هذا المأزق؟!

د.عبد الله الفايز
مستشار تخطيط عمراني ومعماري

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي