إبراهيم الوافي: الحياة والقصيدة حسناوان.. والكتابة أمي وقوت أبي وتاريخ غدي

إبراهيم الوافي: الحياة والقصيدة حسناوان.. والكتابة أمي وقوت أبي وتاريخ غدي

تبرز تجربة الشاعر إبراهيم الوافي بشكل واضح عندما نتناول التجارب المحلية التي برعت في كتابة النص الشعري الجديد بكل ما يكتنزه من دهشة مغايرة وتغيير بالغ الوضوح سواء على مستوى الفنية الشعرية أو البعد الرؤيوي للقصيدة . حتى استطاع أن يفرض لاسمه وجوداً قوياً بين شعراء التسعينيات وما بعدها كما مثل حضوراً نوعياً في ذائقة المتلقي عبر قصائده التي تحظى بخصوصية لا تشبه إلا شاعراً يأتي من أقصى مدينة البوح مثقلاً بجمالٍ تنوء بحمله الذائقة في كثير من الأحيان . اللافت في مسيرة الوافي أنه كان من الشعراء القلة الذين كتبوا القصيدة بوجهي عملتها الفصيح والمحكي دون أن يفرض حدوداً إقليمية لجغرافية الاستيعاب الجمالي، فكان منتمياً فقط إلى قصيدة لا انتماء لها سوى للشعر حيثما كان . الأنثى القصيدة "أعذب الشعر امرأة" هكذا جاء عنوان الإصدار الأخير لإبراهيم الوافي ليكرس تعالقاً فنياً عميقاً يمكن لمسه كثيراً في تجربته، من خلال تقديم مقترح الأنثى القصيدة أو الكينونة التي تتداخل بين ذات الحبيبة باعتبارها الكتابة واللغة التي أكثر رؤيوية، وفي هذا الجانب يعلق الوافي: "أعترف أنني وقعتُ كثيرًا في حالة مزجٍ- لا يحق لي تقييمها بالطبع - بين "الأنثى والقصيدة" حد التوصيف المتبادل (قصيدةٌ أنثى/ أنثى قصيدة)، و من هنا.. يجب أن نشير إلى مفهوم "المرأة" في هذه الحالة كأشهى وأعذب إطلالة للأنثى التي تشكل المساحة الخصبة من الوجود الإنساني، فنقول بعفويّة: أليست السماء أنثى، الشمس أنثى، الأرض أنثى، والسحابة أنثى؟! هذا التأنيث العظيم لآيات الوجود الخصب على مستوى اللغة يدفعنا دائما إلى الوقوف أمام المرأة بكل تفاصيلها الشهية وهي أجمل هيئة تمثل "الأنثى" كثانيَ اثنين من بني الإنسان فهي بالتالي القرينة والقريبة، وقفة اقتران وتفاعل، قد تقفها المرأة كثيرا فلا تحتفل بها شبيهتها حين تنتظر وقفة الذكر وحده ليقترن بها ويتفاعل معها .. وهذا ماجعلها على مدى التاريخ تبحث عن مرآتها في عينيه، في حين يبحث هو عنها في إخصاب الوجود فيلقاها الأجمل بين مؤنثات الرؤى والأقرب من عينيه دائما، ولهذا شغلته دائما بها فشغلها معه لأجلها .. فضلا عن أمرٍ غاية في الأهمية يتعلق بالعلاقة المتواترة دائما بين الحب والشعر ــ وعلى مر العصور واختلاف اللغات والثقافات ــ حين يكون الحب ذاته حاجة ضرورية للشعر.. فبالنظر إلى ماهية الشعر وكنهه.. حيث المظاهر الحلمية والشجن الذي لا انعتاق منه، سنجد ما يفسر هذا التلازم الأبدي المرافق للحب في التعبير الفني على مستوى الشعر، إذ إن مشاعر الغبطة والفرح واللوعة والحزن مشاعر إنسانية، يبقى الحب مملكتها الدائمة في الوقت الذي يجعل منها الشاعر فضاءه الحلمي الممتد بين الحزن والفرح، وتفاعل هذين المظهرين (وأعني بهما الحزن والفرح) مع ما يرافق هذا التفاعل من نشاط إبداعي تخيلي، هو ما يعطي للعمل الفني مظهره الوجداني، ولأن الحب ذاته شكل من أشكال المقاومة تجاه قوى الحصار من حيث هو توق إلى تحقيق الذات بالسعي إلى توحيدها مع الآخر عاطفياً وجسدياً، كانت "المرأة" هي ذلك الآخر للشاعر، حين تتصف "المرأة" باتساع النظرة وقصرها، ويتصف الرجل ببعد النظرة وضيقها، فيتحقق من خلالهما معادلة "التكامل الرؤيوي" في القصيدة . هوامش الحياة.. تفاصيل الكتابة تحضر التفاصيل اليومية كثيرا ضمن النسق الشعري لإبراهيم الوافي بشكل يقودنا إلى سؤال حول المعيار الذي يمكن من خلاله ربط القصيدة بخصوصيتها وتعقيداتها مع المعطى الإنساني البسيط وهو أساس كتابتها.. فهل كان شاعرنا يحاول إعادة القصيدة إلى بيئة متجردة من تعقيد الطقوس الشعرية المكتنزة بلغة لها سماتها، أم أنه يحاول "شعرنة" مشاهده الهامشية ضمن حقها في أن تكون جزءا من القصيدة على أساس كونها أيضاً جزءاً من تفاصيل هذا العالم الذي تولد فيه القصيدة .. شاعرنا يجيد البحث عن رغيف اللغة ويؤمن أنَّ الشاعر في العالم الآني لم يعد مرشداً ولا زعيماً ولا خطيباً، ويقول في هذا الإطار: الشاعر يبقى فرداً من أفراد المجتمع يتميز عن غيره بطريقته الخاصة في رؤية الأشياء والتعامل معها وصياغتها فنياً وجمالياً، وفي قدراته على التعبير عن أحاسيسه وانفعالاته واكتشاف المسارات العامة للوجود الإنساني واستشراف الآفاق المستقبلية وممارسة تأثيره على وجدان الناس من خلال العلاقة الحميمة والهادئة معهم والتي ربما صار مسرحها الحقيقي اليوم هو القراءة الفردية لا المهرجانات الحاشدة، وهذا المآل ليس أزمة في الشعر نفسه وإنما هو محصلة طبيعية لمجموعة واسعة من العوامل والشروط التي أملاها العالم المعاصر!! هذه الرؤية لا يمكن أن نفسّر إيماننا بها ما لم نفتح للقصيدة نوافذها المطلّة على الشوارع المضاءة بألوان عيوننا، والمطفأة كتنور مخبزٍ بدائي في زمن الخبز الآلي، حتما سترقص ستائرها من نسائم الهواء القادمة من جهة المدن التي "مزّق الطلق أحشاءها"، كما قال كبيرنا الذي علمنا الشعر "محمد الثبيتي"، ثم حين نحاصر دوخة الرقص، سنكتشف بسهولة أننا جميعا اشتركنا في صناعة هذا الهواء، فلا أقلّ من أن نتنفسه مجدّدًا على هيئة رؤيا وقصائد شتى. ثقافة المكان صدقيني هي ثلاث حروف يجمعها حنانك شِ عْ رْ.. والرابع زمانك قاف عاشق .. أو "ألِفْ" شاعر مراهق! خلي الرابع عشانك.. هكذا يقول إبراهيم الوافي بثقافة المكان ولغة الأشياء العفوية،لم يكن الأمر يقتضي الاختلاف أصلا في نظره فهو يؤمن بقاعدة أن الفصيح والمحكي خياران أحلاهما شعر!، يمثلان طيفاً لجمالية واحدة وأنهما لا شك أن لكل نمط إبداعي خصوصية تميزها وتشكل من خلالها بيئة ملائمة لما يود النص أن يصل إليه، وفي هذا السياق يقول الوافي: الشعر هاجس بأي لغة جاء .. قد يختلف الشعر الفصيح عن المحكي من حيث التدوين فقط، فقد اعتدنا تفصيح المكتوب مطلقا فنحن مثلا قد نترك ورقة على الباب مكتوب عليها "حضرت ولم أجدك" لكننا حين نخبر عن هذا سنتحدث بلغتنا الدارجة. إذا الأمر لا علاقة له بنوعية الشعر بل بتوثيقه ولهذا سيختلف الأمر بالنسبة لي حين أصدر ديواني المحكي، لأنني أرغب في أن أصدره صوتيا، من هذه النقطة فقط ينتفي عندي الفرق وتبقى القصيدة عندي بنت لحظتها تماما، ونتاج للحالة الشعرية الخالصة، فيجيء النص المحكي مثلا في حالة التنصل من قيود اللغة والانصراف الخالص للشجن الشعري أو الرغبة في التعبير العفوي الصرف، ويأتي النص الفصيح خارج إطار هذه الحالة مع حاجته للأبعاد المعرفية لغويا (علوم النحو والصرف). الفصيح والمحكي.. أحلاهما شعر هذا يعود بنا إلى كيميائية الأدب المحكي –إن صح التعبير - من حيث هو ارتباط أكثر بشعر عفوي لا يخضع سوى لقوانين البوح الأكثر قرباُ من النفس وإليها، هناك تأتي عملية التواصل الذوقي ضمن مساحة أكثر سهولة وأوسع دائرة غالباً، تتحول المسألة إلى حالة من الطرب الشعري التلقائي، في حين يأخذ المنجز الشعري مساراً تجديدياً مهماً مع الوقت، يقول الوافي: الشعر المحكي ومنذ عقدين من الزمان تقريبا أحدث تطورا مذهلا في تركيبته ورؤياه، فهو لم يعد شعر العوام كما كان يوصف، لكنه الآن شعر المثقفين الذي جاء بلغة الحكي، وأعتقد أن مشكلته الوحيدة التي تحد كثيرا من مكانته هي اصطدامه بقواعد الإملاء العربي أثناء الطباعة إذ إن كتابته وتداوله مطبوعًا تحدث فجوة كبيرة بين الشاعر والمتلقي، فهو أمام خيارين مؤثرين جدا إما أن يلتزم بقواعد الكتابة المرسومة سلفا للكلام الفصيح ويفقد بالتالي الشعر كثيرا من هيئته وكنهه وإما أن يخترق قواعد الإملاء وينطلق لكتابة الصوت وهذا سيؤثر بشكل سلبي كبير في اللغة، وأرى أن الاكتفاء بالدواوين الصوتية حل وسطي مناسب لهذه الإشكالية، ولاسيما بعد تجاوزه عائق الإقليمية عن طريق الغناء، فلم يعد الشعر المحكي ذو اللغة "النجدية" كلغة نموذجية، نكرة عند الشعوب العربية مهما تباينت لهجاتها واختلفت بسبب مد هذا الشعر وهيمنته على الغناء العربي منذ فترة طويلة، ومع مرور الوقت أجزم أنه سيتوازى مع اللهجة المصرية كشعر إقليمي عام، مع الوضع في الاعتبار من أن الشعر المحكي قائم مباشرة على سمات الأداء الصوتي في إيقاعه ورؤاه معا. للجمال أكثر من لغة إبراهيم الوافي الشاعر الفصيح المؤثر، لا يفقد شيئاً من جاذبيته عندما يكتب بالمحكي، هكذا يؤكد كل متابع للتجربتين حيث لم تمثل التجربة أي ازدواجية بين الجانبين بل تميز كل منهما بأسلوب متفرد وخصوصية لافتة، هي بالتحديد ما كان يقصده الوافي وهو يبرر دائما أنه ليس هناك فصيح ومحكي، هناك شعر فقط لا يعترف سوى بحدود الذائقة ومدارك الدهشة الأدبية، يجلس شاعرنا على شرفة البوح فيترك لأنثاه لقصيدة أن تأتيه كما شاءت فلا يوصد دونها باباً ولا يستكثر عليها ترحاباً، يكتبها كيفما كانت وبلا تعاريف لما يمكن أن تكونه غير أن تكون شيئا يشبهه فقط، يقول الوافي عن حالة قصيدته المحكية: حين أكتب نصا محكيا أشعر بأنني أدندن في الفضاء ولا أعتقد أنني بحاجة حينها إلى من يسمعني. ورغم تجربته المغايرة في مجلة المختلف قبل أكثر من خمس سنوات من خلال قراءة وتحليل بعض النصوص الشعرية لشعراء معروفين على مستوى النص المحكي إلا أنه يتحدث بقناعة - وربما بواقعية - عن اطلاعه على هذه الساحة فيقول: يمكن اعتباري قارئاً عادياً سلبياً، رغم علمي بوجود عدد من النماذج الرائعة في الشعر المحكي إلا أنني ربما لم أطلع إلا على قصائد محدودة جدا لفهد عافت ومساعد الرشيدي بسبب الحضور الإعلامي المستحق لهما، وهما تجربتان مميزتان جدا وتؤثران بشكل عام في مسيرة النص المحكي. وفاء الشاعر للقصيدة وبعد.. هاهي تجربة الشاعر المترامي الأطياف والمتسع باتساع الرمل، إبراهيم الذي بقي وفياً لقصيدته منذ أكثر من عقدين من البوح وخمس مجموعات مكتنزة بامرأة لا تكفيها القصائد أياً كانت، هو تجربة محايدة إلا في انحيازها للذائقة حيثما كانت، يجيد ترتيب الكلام ونظم الحروف عقوداً من الحلم الحقيقي، ولولا أن شاعرنا حافل بتعددية الإبداع لأصبح من حق عشاق الأدب المحكي أن يتساءلوا عن ما يمكن أن يكونه إبراهيم الوافي فيما لو كتب هذا اللون فقط، ولكنه أتاح نوافذ الضوء للجميع ولم يستكثر ذاته على القصائد في المشهدين، كان يمطر حيث شاءت له القصيدة ويترك للذائقة مساحة من حدائق الفن الشعري قبل أن يعود ليسقيها مجدداً متى ما أراد ودون إشعار آخر!
إنشرها

أضف تعليق