الإفلاس الثقافي

[email protected]

يعتبر الإفلاس كلمة قديمة العهد، ظهرت في زمن الرومان شرعت في ذلك الوقت وتطورت وكانت للإفلاس تشريعات تختلف كليا عن ما هي عليه الآن. كثرت التعاريف وتعددت عن الإفلاس فالبعض عرفه بعدم بقاء مال للإنسان وقصوره عن أداء ديونه. والبعض الآخر عرفه بأنه حالة من العسر والعجز المالي يمر بها الإنسان عندما يتوقف عن دفع ديونه.عند ظهور هذا التشريع في العصر الروماني كان يجيز امتلاك الدائن لشخص المدين عند امتناعه عن دفع ديونه مستحقة الدفع، ويمكن أن يتخذ الدائن تجاه المدين إجراء قد يصل إلى بيعه أو تأجيره أو حتى قتله. وفي حالة تعدد الدائنين يحق لهم أن يبيعوه ويتقاسمون ثمنه كل حسب نسبة دينه.
تطور الوضع عبر العصور واختلف مفهوم الإفلاس وتشريعاته فأصبح تحكم الدائن للمدين في ماله فقط وليس شخصه. من هذه المصطلحات والتعاريف نستخلص أن الإفلاس يطلق في العصور الحديثة كما حددتها التشريعات الموضوعة على الأمور المالية فقط ولا تتعداها.

إذا تتبعنا أثر ما حدث من تطورات لمصطلح الإفلاس وتشريعاته منذ العهد الروماني إلى العصر الحديث الذي نعيشه، نجد أن الإفلاس يمكن أن يعرف لفقد الإنسان أي منفعة له ويؤدي فقده لهذه المنفعة إلى نتائج قد تغير مسار حياته كليا. مثل فقد الإنسان للعلم والمعرفة والثقافة. عندما يفقد الإنسان المال، وذلك حسب التشريعات الحديثة، يقع العقاب على أمواله فقط وليس لشخصه ولكن عندما يفقد الأفراد العلم والثقافة تقع النتائج على مجتمع بأكمله ومستقبل الدولة ككل. الإجراءات لحل مشكلة الإفلاس المادي متعددة من ضمنها الاقتراض ويشرع لفترة محددة لحين أن يصبح المدين قادرا على رد هذا المبلغ للدائن، لكن في حالة الإفلاس الثقافي لا يمكن اقتراضه لسد ما تخلف عن سداده.
إن الإفلاس الثقافي لدى الإنسان يؤدي إلى نتائج أكبر من التخلف عن إبقاء الدين أو الإفلاس المادي، حيث يسهل على الشعوب التي ينتشر فيها الإفلاس الثقافي التأثير في أفرادها عن طريق نشر الأفكار الخاطئة من خلال فرق ضالة تسعى لتحقق مصالح خاصة بهم. إن افتقاد الأفراد لفكر قوي وثقافة لمحاربة هذه الأفكار الضالة التي تنتشر بين أفراده يعتبر عاملا أساسيا لتخلف هذه المجتمعات وسقوط أفرادها في أيدي هذه الفرق الضالة التي تبيد فكر أفراده.
ومن المعروف أن تمتع أفراد الشعوب بمستوى ثقافي مناسب يحقق غرضين أساسيين، الأول: حماية الأفراد من الأفكار الخاطئة والسيئة التي تنتشر وتؤدي لنتائج تؤثر في أفراد المجتمع بشكل عام. والغرض الثاني هو: حماية الأفراد من القوى الخارجية التي تتسلط عليهم وتسهل مهمة الاستعمار الفكري من الثقافات الخارجية.

تختلف حالة الإفلاس الثقافي التي يقع فيها الأفراد في المجتمعات عن حالة نقص الثقافة أو العجز الثقافي فحالة الإفلاس الثقافي هي نظام تصفية جماعية يتحكم بها الطرف المدين في ثقافة المجتمع، وبالقوة التي يتمتع بها يتسنى له سن قوانين تطبق على أفراد المجتمع بشكل حازم وقوي دون أن يواجه من يناقش هذه القوانين، ويرجع ذلك للضعف أو الإفلاس الثقافي الذي يعيشه أفراد المجتمع المحكوم. بينما العجز الثقافي هي حالة من الإعسار التي تقر وتطبق بمبدأ الملاحقة الفردية وليست الجماعية ويرجع ذلك لانتشار الثقافة بنسبة أكبر بين أفراد المجتمع فتصبح قوة التأثير فيه أضعف.
إن ارتقاء الشعوب والمجتمعات من مستوى الإفلاس الثقافي إلى مستوى العجز الثقافي يعد عاملا مهما يشكل حماية إلى حد ما لأفراد المجتمع الذي يعيشون فيه، بالإضافة إلى سن التشريعات في المجتمعات التي تطبق عن طريق الاهتمام بالعلم، نشر الثقافة، بناء المكتبات، تثقيف الأطفال منذ صغرهم ومحاربة هذه الأفكار والعوامل التي تسبب تعطيل الفكر والعقل لدى الأفراد في المجتمع، وتطبيقها جميعا يساعد المجتمعات بالنهوض بمستوى حماية للمجتمعات والأفراد من أي قوى داخلية وخارجية تؤثر فيهم.
ولكي يحقق هذا فلا بد من وجود حرية فكر وتعبير والذي بالتالي يساعد على التحقق من صلاحية انتشار ثقافات مختلفة أو فكر بين أفراده وليس سيطرة فكر أحادي يمتلك حرية التفكير بدلا عن الشعب. إن الارتقاء إلى هذا المستوى بين أفراد الشعوب يرجع إلى مستوى ثقافة أفراد الشعب أنفسهم فهم الذين يحددون قوة تأثير العوامل الخارجية والداخلية فيهم بمستوى ثقافتهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي