شكوك حول إمكانية فك الارتباط اقتصاديا بين أوروبا وأمريكا
رفع خبراء البنك المركزي الأوروبي قليلا من توقعاتهم لنمو الاقتصاد في منطقة الاتحاد النقدي، حيث أصبح هؤلاء الاقتصاديون يتوقعون نموا للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للسنة الحالية والسنة التي تليها بنسبة 2.5 و 2.4 في المائة على التوالي . أي أن الاقتصاد الأوروبي سيعاني من بعض التراجع بعد النهوض الكبير الذي بلغ العام الماضي ما نسبته 2.8 في المائة, غير أنه سينمو, وفقا لهذه التقديرات، بوتيرة أسرع من نمو معدل التضخم الذي يتوقع أن يكون في حدود 2 في المائة .
ومن الملاحظ أن اقتصاديي البنك المركزي الأوروبي ليسوا وحدهم في هذا المستوى الحذر من التوقعات, حيث إن معهد الاقتصاد العالمي في مدينة كيل, على سبيل المثال, يتوقع نمو اقتصاد الفضاء الأوروبي بنسبة 2.7 في المائة لهذه السنة, بينما يتميز موقف الخبراء الاقتصاديين في دويتشه بنك بأنه أكثر تحفظا فهم يتوقعون نموا لا تزيد نسبته عن 2.2 في المائة وفي الوقت نفسه يقدر معهد التعاون الأكاديمي Ifo-Institut في مدينة ميونيخ بأن معدل النمو سيبلغ ما نسبته 2 في المائة.
إن المؤشرات الاقتصادية الأولية لهذه السنة تدعو نوعا ما للثقة, حيث إن الوهن الذي كان متوقعا أن يلم بالنمو الاقتصادي خلال النصف الأول من العام الجاري لم تتضح معالمه كما كان مفترضا في نهاية عام 2006 . إن المؤشرات المتوافرة للفضاء الأوروبي حتى شهر شباط ( فبراير ) في مجال الصناعة تشي ببعض التراجع مقارنة بمؤشرات السنة الماضية، ولكنها مع ذلك تشير إلى حالة من الاستقرار في القطاع الصناعي, كما تدل نتائج الأعمال لشهر آذار (مارس) في أكبر دولتين من دول الاتحاد الأوروبي على تحسن ملموس في المناخ الصناعي . أما الاقتصاد الألماني بالذات فيبدو أنه في حالة أفضل مما كان يتوقع الاقتصاديون بعد الاستفتاء حول زيادة الضريبة المضافة. صحيح أن المناخ الاستهلاكي للمستهلكين الألمان قد انحدر مع العام الجديد، ولكته يبدو أنه عاد ليستقر على أرضية صلبة . ومن المؤكد أن ذلك لم يؤثر , على أية حال, في ثقة المستهلكين بالفضاء الأوروبي كله, بل إن من الجدير ذكره أن هذا المؤشر قد استمر صعوده بلا توقف منذ منتصف عام 2005. كما أن تحسن الأوضاع في أسواق العمل الأوروبية تدعو للتفاؤل بتحسن الظروف المعيشية للأسر.
إن الأرقام الدامغة من القطاع الصناعي حتى شهر كانون الثاني (يناير) تشير إلى اتجاه متصاعد بلا انقطاع في الإنتاج . ولكن الطلبات التي كانت تتزايد بسرعة على القطاع الصناعي قد هدأت قليلا منذ النصف الثاني من السنة, وليس ثمة ما يشير في هذه الأثناء إلى أن الازدهار الصناعي يمكن أن يتوقف فجأة . هذا وتبين أرقام اللجنة الأوروبية أن الشركات الصناعية تخطط في هذه السنة لمزيد من الاستثمارات والتوسع في الطاقات الإنتاجية . ولا بد من التنويه في هذا السياق بأن درجة استغلال الطاقات الإنتاجية في الصناعات التحويلية قد ازدادت خلال الربع الأول من عام 2007 إلى ما نسبته 84،4 في المائة وهو ما يوازي نسبة الاستغلال التي سادت أثناء فترة صعود الاقتصاد الجديد عام 2000, وإن لم تصل إلى مستوى الاستغلال في فترة ما بعد إعادة توحيد الألمانيتين.
وليس هناك خلاف في الرأي بين الاقتصاديين بالنسبة لإمكانية فك ارتباط الدورة الاقتصادية في أوروبا في السنة الجارية مع ما هو متوقع من وهن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة . ومن المعروف أن الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الصيني كانا في السنوات الماضية بمثابة الحصان الذي يجر الاقتصاد العالمي . ولكن منذ صيف عام 2006 حقق الاقتصاد الأوروبي معدلات نمو أكبر من الاقتصاد الأمريكي على أساس المقارنة ربع السنوية . وهناك من العوامل ما يذكي مقاومة الاقتصاد الأوروبي للتأثيرات الوافدة من الخارج, ومن هذه العوامل أن الانتعاش في العام الماضي كان يستند إلى ازدهار راسخ في الأسواق المحلية, وبشكل خاص إلى استثمارات متعاظمة . صحيح أنه كانت هناك دعوات متعددة في السنوات السابقة لتأمين استقلال الدورة الاقتصادية لأوروبا عن الولايات المتحدة, ولكن الآمال في ذلك كانت تخيب في غالبية الأحيان, مع أن حجم التجارة الخارجية للفضاء الأوروبي مع المملكة المتحدة أكبر مما هو مع الولايات المتحدة
غير أن أي ضعف في الدورة الاقتصادية الأمريكية يؤثر سلبا في الأسواق الثالثة من خلال التجارة الخارجية, ويؤثر بطريقة غير مباشرة في منطقة الاتحاد النقدي الأوروبي خصوصا إذا ترافق ذلك مع ضعف في الدولار وقوة في اليورو . هذا وتوضح العديد من مؤشرات الدورة الاقتصادية على هذا الجانب وعلى ذاك الجانب من المحيط الأطلنطي تناغما في الأداء وإن لم يكن في اللحظة نفسها, بين الدورتين, مما يثير الشك في موضوعة فك ارتباط الدورة الاقتصادية لأوروبا عن نظيرتها في الولايات المتحدة . ومما لا شك فيه أن حدوث أي نكسة في الاقتصاد الأمريكي لا بد أن يترك آثاره في الفضاء الأوروبي.
وفي ضوء الآفاق الواعدة للدورة الاقتصادية في الفضاء الأوروبي, تستند آمال بعض الباحثين في الشأن الاقتصادي على الاعتقاد أن الإصلاحات البنيوية في أسواق العمل وفي أنظمة الرعاية الاجتماعية للدول الأوروبية ستؤدي ‘ في المدى المتوسط, إلى زيادة النمو قوة . وهذا من شأنه , كما يعتقد بعض الاقتصاديين, أن يخفف من الضغوط التضخمية, على الرغم من الارتفاع النسبي في معدلات النمو, مما يوفر للبنك المركزي الأوروبي حيزا أوسع للمناورة ومما يغنيه عن إقرار زيادات أخرى في أسعار الفائدة . أما بالنسبة لإصدار الأحكام حول تغير معدلات النمو المحتملة فأمر سابق لأوانه, خصوصا وأن ذلك يتطلب تحليلا لمعطيات دورة كاملة بما في ذلك مراحل الهبوط .
وتبين دراسة لمعهد الاقتصاد العالمي أن الانتعاش في ألمانيا يعود لانتهاج سياسة محافظة في مجال الأجور لعدة سنوات وهو ما أدى إلى نمو العمالة وبالتالي إلى تطور الدخل . إن كبح جماح الأجور قد فرضته البطالة الواسعة والمنافسة الدولية الحادة, كما يقول الباحثون . وإذا كان ذلك صحيحا فإنه يعني أن طاقات النمو في ألمانيا, وبالتالي في الفضاء الأوروبي, قد ازدادت بالفعل. أما ما إذا كانت قدرة النقابات على فرض الأجور قد تقلصت حقا بصورة مستدامة بفعل الإصلاحات في سوق العمل، فسيتبين ذلك من خلال جولة المفاوضات الحالية حول الأجور, ومن يدري فقد تؤدي اتفاقيات الأجور إلى سرعة تبدد الآمال بتحقيق قوة نمو أكبر .