الرهن العقاري .. تعقيدات ومشكلات في بيع الاصل المرهون
أكد عدد من المسؤولين والمختصين في جوانب العقار أن الرهن العقاري هو من النوازل التي وضعت لها الشريعة ضوابطها الشرعية, وأن هناك اهتماما به، وطالبوا بأن تكون جميع الإثباتات واضحة وجلية ما يسهل عملية عنها هذه الرهون, وأشاروا إلى أن العقارات من الأعيان التي يجوز رهنها كما أجمع على ذلك علماء الأمة, وتطرقوا إلى أهمية توثيق الدين, كما حث على ذلك الشرع. وللمزيد من إلقاء الضوء على هذا الموضوع نترككم مع آراء المختصين والمسؤولين الشرعيين.
نظام الرهن العقاري
أوضح الشيخ الدكتور صالح بن إبراهيم آل الشيخ رئيس المحكمة الجزئية في الرياض, أن الرهن في اللغة يعني الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن أي راكد، وقد يطلق الرهن على الحبس، ومنه قول الله تعالى: " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ " المدثر: 38, أي محبوسة بكسبها وعملها.
وأما تعريفه في الاصطلاح: فهو توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها. مثال ذلك: أن يشتري شخص سيارة من آخر بـ 50 ألف ريال مؤجلة، فيطلب منه البائع أن يوثق هذا الدين, فرهن عنده رهنا, سلعة من السلع, قال: هذه السلعة رهن عندك, إن سددت الدين المستحق عليَّ وإلا فإنك تبيع هذه السلعة وتستوفي حقك منها.
أي أن الدائن يلجأ إلى أن يطلب من المدين أن يرهن عنده عيناً ليضمن بذلك ماله, بحيث إذا عجز المدين عن الوفاء بالدين يحق للدائن بيع ذلك المرهون واستيفاء دينه منه.
دليل مشروعيته
وأبان آل الشيخ أن دليل مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة"البقرة: 283,
ومن السنة حديث عائشة, رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه" رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" رواه البخاري.
وقد أجمعت الأمة على مشروعيته كما حكى الإجماع الموفق ابن قدامة وغيره من أهل العلم.
وثم قاعدة شرعية مفيدة في هذا الباب، وهي: أن كل ما جاز بيعه جاز رهنه، وما لا فلا . ومعلوم أن العقارات من الأعيان التي يجوز بيعها, وهي مما تمس حاجة الناس إليها في كل زمان, خصوصا في زمننا هذا الذي اتسعت فيه المعاملات التجارية في مجال العقار بيعا وشراء وإجارة ورهنا وغير ذلك مما للناس مصلحة فيه بوجه من الوجوه.
مفهوم الرهن العقاري
ويؤكد آل الشيخ أن ما يهمنا هنا هو مفهوم الرهن العقاري, حيث إن دخول مصطلح الرهن على ما يتعلق بتمويل الأفراد للحصول على مساكن يعتبر غريبا نوعا ما, حيث إن الرهن كما هو معروف عبارة عن عقد توثيق غير مستقل بذاته, فهو يأتي تابعا لعقد بيع أو قرض أو نحو ذلك, وفيه نوع ضمانة أن البائع أو المقرض قد يتمكن من الحصول على حقه أو جزء من حقه عندما يعطى صلاحية للتصرف في العين التي تم رهنها عند عدم قدرة المدين على التسديد.
وقبل الشروع في بيان حكم (الرهن العقاري) في الشريعة الإسلامية, لا بد من تحديد المقصود بهذا النوع من الرهون, ولا يمكن التوصل إلى حكم شرعي فيه إلا بتحديد صورته والمقصود منه.
لا يوجد امتناع من كتابات العدل
ومن جهته قال الشيخ محمد السماعيل رئيس كتابة عدل الأولى إن هناك معاملات عدة تندرج تحت اسم الرهن ومنها ما تقدمها بعض الشركات التي تقدم قروضا سكنية لموظفيها. وكذلك بيوع التقسيط التي يحصل فيها الراهن لضمان المبالغ التي تكون في ذمم المشترين. وكذلك الرهون التي تكون في معنى الكفالة الغرامية التي تقدم لبعض الجهات الحكومية في بعض المعاملات.
ويضيف لا يوجد أي امتناع من كتابات العدل من إجراء الرهون للبنوك, لكن أحياناًَ يصاحب طلب الرهن تجاوزات شرعية أو نظامية تمنعها أنظمة الدولة لذا تعتذر كتابات العدل عن إثبات هذه الرهون, حيث إن عدداً من هذه الرهون يصاحبها اشتراط عمولات أو فوائد أو منافع على هذه القروض لصالح البنك أو اشتراط شروط غير صحيحة في الرهن أو أن يكون منح هذه القروض مخالفا للإجراءات النظامية في نظام البنك ونتيجة لذلك لا تقوم كتابات العدل بالرهن لمخالفة الطلب القواعد والأنظمة الشرعية, وأما بالنسبة إلى عملية التحايل التي قد يقوم بها البنك بتسجيل العقار باسمه فإن نظام مراقبة البنوك يشترط موافقة مؤسسة النقد على تسجيل أي عقار باسم أي بنك احتياطاً من مثل هذا التحايل.
الرهن القبض
وحول إذا ما كان يشترط للزوم الرهن القبض أم أنه يلزم بمجرد العقد, يقول الدكتور آل الشيخ إن هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين مشهورين:
القول الأول: إن الرهن يشترط للزومه القبض، وهذا هو الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة.
القول الثاني: إنه لا يشترط للزوم الرهن القبض، وإنما يلزم الرهن بمجرد العقد, وهذا هو مذهب المالكية.
واستدل الجمهور لقولهم بقول الله - عز وجل- في آية الدين: "وَإِن كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ" قالوا: فاشترط الله -عز وجل- للرهان أن تكون مقبوضة، فأخذوا بظاهر الآية الكريمة.
أما المالكية فقالوا: إن الرهن عقد, والعقد يلزم بمجرد التعاقد, والله تعالى يقول: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ? المائدة: 1, وقياسا على البيع فكما أن البيع يلزم بمجرد العقد والتفرق من المجلس ولو لم يقبض المشتري السلعة فكذلك الرهن.
وهذا القول الأخير هو القول الراجح في المسألة, وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية, وهو الذي عليه أكثر المحققين من أهل العلم, والله تعالى أعلم.
متطلبات الرهن
وأفاد السماعيل أن متطلبات الرهن حضور الراهن (مالك العقار) وكذلك حضور المرتهن (صاحب الدين) وإحضار صك العقار وشاهدين, وأما بالنسبة إلى الرهون للجهات الحكومية فيكفي عن حضور مندوب الجهة الحكومية ومعه خطاب بشكل رسمي منها لكتابة العدل وكذلك هذه الرهون للجهات الحكومية لا تحتاج إلى شاهدين.
وأكد أنه في حالة عدم سداد الدين فإنه يحق لصاحب الدين التقدم للمحكمة بطلب بيع الرهن واستيفاء حقه منه. معاملة الرهن تتم في اليوم نفسه الذي حضر فيه الأطراف.
إثبات الرهن
ومضى الشيخ السماعيل بقوله إنه يتم إثبات الرهن على الصك عند حضور الأطراف يقوم كاتب العدل بضبط الرهن في الدفتر المتخصص لديه ويأخذ توقعيهم بعدما يفهمهم معنى ما تم ضبطه والآثار المترتبة عليه وبعد ذلك يقوم بكتابة عبارات على صك الملكية بما تفيد بأنه تم رهنه لصالح كذا مقابل مبلغ وقدره ليمنح تصرف مالك العقار فيه بالبيع أو الانتقال أو رهنه لطرف آخر, وهذه العبارة أيضاً تثبت في سجل الصك الذي وجد في كتابة العدل ويأخذ المرتهن صاحب الدين صكاً بالرهن أو صورة من الصك بعد رهنه.
وبالنسبة إلى رهن عقار القاصر لصالح أي جهة أو فرد لا بد أن يسبقه موافقة صريحة من المحكمة على إجراء الرهن بعدما يتأكد القاضي من حصول مصلحة للقاصر في إجراء الرهن على العقار العائد له.
أهم صور الرهن العقاري
يحدد الدكتور آل الشيخ صور الرهن العقاري فيما يلي:
الأولى: أن يمول شخص أو جهة أو مؤسسة مالية أحد العملاء, على أن يرتهن عقارا إلى أن يسدد ما عليه في المدة المتفق عليها بين الطرفين, فإذا لم يسد العميل فإن للجهة الممولة الحق في بيع الرهن واستيفاء ما لها من قيمة العقار.
الثانية: أن تقرض جهة مالية أحد الأشخاص مالا لشراء عقار, وترتهن هذا العقار حتى يتم تسديد العميل ما للجهة عليه من حق.
الثالثة: أن تمتلك الجهة الممولة عقارا تستثمره بالبيع على عملائها بثمن مؤجل على أن ترتهن العقار المباع إلى أن يسدد المشتري كامل القيمة.
أما الصورة الأولى فهي من الصور الجائزة؛ لأنها جارية على أصول الرهن المشروعة والمتفق عليها بين العلماء .
وأما الصور الثانية: فهي أيضا جائزة, فقد قال البهوتي في شرح منتهى الإرادات في باب القرض من كتاب البيوع: "ويجوز شرطُ رهنٍ فيه " (أي في القرض)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استقرض من يهودي شعيرا ورهنه درعه" متفق عليه؛ ولأن ما جاز فعله جاز شرطه" (2/227).
وأما الصورة الثالثة: فاختلف أهل العلم فيما إذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنا على ثمنه, فرأى بعض الحنابلة والشافعية أنه لا يصح لما يلي:
· أن المبيع حين شرط المرتهن رهنه لم يكن ملكا للراهن.
· أن البيع يقتضي تسليم المبيع أولا, ورهن المبيع يقتضي ألا يسلمه حتى يقبض الثمن.
· أن البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع, والرهن يقتضي إيفاءه منه.
ويرى ابن قدامة أن ظاهر الرواية صحة رهنه لما يلي:
لأنه إنما شرط رهن المبيع بعد ملكه.
أما كون البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع فغير صحيح, وإنما يقتضي إيفاء الثمن مطلقا. ولو تعذر إيفاء الثمن من غير المبيع لاستوفاه من ثمنه.
وعليه فإن الرهن العقاري فيه توسعة على المسلمين, وفيه ضمان حقوق الممولين وتوثيقها بالطرق الشرعية, كما أن فيه تنمية للسوق العقارية مما يعود على اقتصاد البلاد بالفائدة والمصلحة .
على أننا نحذر من أن تتضمن هذه المعاملات العقارية بعض الشروط التي تفضي إلى الوقوع في الربا المجمع على تحريمه, وعلى الجهات المعنية أن تراعي في هذه المعاملات صيغ العقود وما تتضمنها من شروط بحيث تكون موافقة للشريعة الإسلامية من خلال الاستعانة بالعلماء المتخصصين في فقه المعاملات الشرعية حتى لا تحدث تجاوزات لا يرضاها الله تبارك وتعالى.
مشكلات وتعقيدات
يرى مساعد الزامل العقاري المعروف أن هناك مشكلات وتعقيدات بيروقراطية تعوق وضع النظام العقاري وتطبيقه وتفعيل دوره, فهناك بطء كبير في دراسات الرهن العقاري ولوائحه التنفيذية, إذ لا بد أن يمر بإجراءات دستورية طويلة، تبدأ من لجنة الخبراء في مجلس الوزراء ثم تحول إلى مجلس الشورى ثم تعود إلى مجلس الوزراء لإقرار تنفيذها، ولم يتم أي من هذه الخطوات حتى الآن.
وأما إجراءات الرهن العقاري الحالية لرهن العقار لمصلحة صاحب رأس المال المقدم للمستفيد من العقار السكني أو التجاري فإنه لابد أن تمر معاملته بخطوات إجرائية طويلة تشمل وزارة التجارة ووزارة العدل وغيرها من الجهات وتتأخر المعاملة لغرض توثيقها زمنا طويلا, فضلا عن أن هناك مشكلات كبيرة في تنفيذ بيع الأصل المرهون فيما لو تأخر الراهن في أداء الدفعات.