أوروبا تطلق نظام "سيبا" لتسوية المدفوعات غير النقدية
بالنسبة للدفعات النقدية توجد منذ فترة منطقة المدفوعات الأوروبية الموحدة، ففي هذه الأثناء أصبح بوسع المواطن في 13 دولة أوروبية أن يدفع قيمة مشترياته من المحال التجارية والمطاعم باليورو بصورة طبيعية. أما بالنسبة للمدفوعات غير النقدية فلا تزال الحدود القومية تشكل في الغالب عقبات في وجه ذلك، حيث إن التحويلات المالية إلى الدول المجاورة هي عمليات شاقة ومكلفة، بينما تكاد تسوية الديون عبر الحدود تكون مستحيلة. ولكن ذلك كله سيتغير ابتداء من عام 2008. إن الاسم الرمزي لهذه العملية هو سيبا Sepa وهو مختصر لاسم منطقة المدفوعات الأوروبية الواحدة، ولكن ابتداء من عام 2008 سيتغير كل ذلك.
ولأول وهلة تبدو سيبا وكأن المقصود منها تسهيل تسوية المدفوعات داخل السوق الأوروبية فقط. ولكن الصحيح أن ذلك سيسهل بشكل واضح أيضا عمليات توزيع السلع والخدمات في مختلف مناطق السوق الداخلية وبالتالي تشجيع المنافسة بشكل عام. كما أن أثر ذلك في التجارة، والبنوك، والمستهلكين لا يمكن التقليل من أهميته. بل إن الخبراء يتوقعون أن يتمخض عن ذلك إحداث دفعة قوية للإنتاجية، ستؤدي بالنتيجة إلى تخفيض التكاليف بخمسين إلى 100 مليار يورو سنويا.
وتحت ضغوط سياسية ألزمت البنوك الأوروبية نفسها بتحقيق منطقة المدفوعات الأوروبية الواحدة ابتداء من عام 2008. وأخيراً أقر وزراء الاتحاد الأوروبي الخطوط العامة التي ستشكل إطارا لتدفق المدفوعات عبر القارة الأوروبية. أما موافقة البرلمان الأوروبي على ذلك فتكاد تكون محسومة. ومن الجدير بالذكر أن سيبا تشير إلى ثلاث أدوات: التحويلات المالية، تسوية الديون، وبطاقات الائتمان. ومن المفروض أن يجري مستقبلا توحيدها في نمط واحد بحيث تكون خاضعة لأنظمة موحدة. ومن المعروف أن منطقة المدفوعات الأوروبية الواحدة سيبا تضم 27 دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي، وكذلك بعض البلدان المجاورة كسويسرا والنرويج. وقد التزمت البنوك بأن تكون البنية التحتية الفنية لهذا المشروع جاهزة مع قدوم عام 2008. ومن المؤكد أنها ستنجز هذا الالتزام، وسيترك الباب مفتوحا أمام عملاء البنوك لتسوية مدفوعاتهم من خلال أدوات سيبا أو بالطرق التقليدية.
ومهما يكن الأمر فسيكون بوسع البنوك أن تقنع عملاءها بالتحول في وقت مبكر إلى الأدوات الحديثة، ليس فقط بالنسبة لتسوية المدفوعات عبر الحدود، وإنما بالنسبة لتسوية المدفوعات داخليا أيضا، وذلك لأن بقاء النظامين: القديم والجديد، جنبا إلى جنب، أمر مشحون بالتكاليف. وبغض النظر عن ذلك، فإن معايير سيبا الجديدة ستفتح أمام البنوك وأمام المتعاملين مع البنوك آفاقا واسعة للترشيد. ولهذا فإن من المتوقع أن تتم جميع تسويات المدفوعات غير النقدية بواسطة أدوات سيبا حتى عام 2012.
أما بالنسبة للمستهلك الألماني فإن هذا التحول ليس بالأمر المثير. ذلك لأن نظام تسوية المدفوعات داخل ألمانيا يمتاز بدرجة عالية من الكفاءة، كما أن تكاليفه مناسبة. وفي التحويلات بموجب معايير سيبا فلا بد من استخدام رقم الحساب الدولي وهو أمر غير مريح. ومقابل ذلك ستكون البنوك ابتداء من عام 2012 ملزمة بالقيام بعمليات التحويل في اليوم الذي يلي تكليفها بذلك. وهو الأمر الذي يستغرق حاليا فترة أطول في غالبية الحالات. ولا بد من التذكير بأن النظام الجديد ينسجم مع أجندة لشبونة التي تقضي بتمكين أوروبا من احتلال القمة من الناحية التكنولوجية.
إن بطاقات الائتمان مثل بطاقة الشيك الأوروبي EC-Karte سيجري استخدامها في المستقبل بكثرة لدى التجار، وسيؤدي ذلك لتقليص عمليات الدفع نقدا، وهذا أمر إيجابي لأن الدفع نقدا عملية مكلفة من وجهة النظر الاقتصادية. غير أن ثمة شكوكا تحيط بشروط المسؤولية المرنة أكثر من اللزوم، التي يمكن أن تؤدي إلى إساءة استخدام هذه البطاقات. هذا ومن المتوقع أن تصبح عمليات تسوية الديون ممكنة عبر القارة الأوروبية بأسرها ابتداء من عام 2009. بحيث يصبح بإمكان الشخص مثلا أن يدفع ثمن الكهرباء التي استهلكها أثناء إجازته في إحدى الاستراحات في جزر مدغشقر من حسابه الألماني. وهذا يشكل تقدما أيضا.
ويتوقع أن تعطي سيبا دفعة قوية للإنتاجية بشكل خاص في مجالي التجارة والصناعة، فمثلا لا بد لشركات التجارة الكبرى على الإنترنت من أن يكون لكل منها حاليا، لأغراض تحصيل المستحقات المالية، شركة فرعية تابعة في كل بلد من البلدان. بينما سيكون كافيا مستقبلا بالنسبة لمنطقة سيبا بعدد سكانها البالغ 500 مليون نسمة أن يكون هناك مركز واحد لأغراض التحصيل. وهذا سيخفض التكاليف وسيزيد بشكل ملحوظ من رقعة توزيع السلع والخدمات على نطاق القارة الأوروبية. كما سيستفيد المستهلك من المنافسة التي ستقوى وتشتد. فعلى سبيل المثال ستقوم جميع الشركات الفرعية الأوروبية التابعة لمجموعة شركات BASF للصناعات الكيماوية بتركيز جميع معاملاتها المصرفية مع بنك واحد خاص بالمجموعة عند بداية العمل وفقا لأنظمة سيبا. فبدلا من التعامل مع عشرات البنوك ستحصر مجموعة شركات BASF معاملاتها المصرفية في أوروبا مع عدد محدود من المؤسسات وسيقلص هذا من الرسوم المصرفية ومن نفقات الرقابة والسيطرة.
إن هذه الأمثلة توضح أن البنوك أيضا تقف على عتبة مرحلة من التحولات الجذرية. هذا ومن المتوقع أن يؤدي العمل بموجب أنظمة سيبا إلى أن يتجاوز إجمالي سوق التسويات المالية 30 مليار يورو، كما أن العديد من المؤسسات ستجد نفسها مجبرة على تكليف كبار الاختصاصيين مهمة تسوية المدفوعات، من أولئك الذين يضمنون لها ميزات في النفقات. إن هذه التحولات البنيوية ستوفر بلا ريب حوافز إضافية لقيام مؤسسات بنكية كبيرة في الفضاء الأوروبي.
إن نظام المدفوعات في أوروبا حاليا أشبه ما يكون بالثوب المليء بالثقوب: فقد تطور تاريخيا بحيث أصبح لدى كل دولة نظامها الخاص. ولعل مما يلفت الانتباه أن بنوك أوروبا تغلبت على ما في مصالحها من تناقض واستطاعت بذلك أن تتفق على معايير موحدة. وبعد أن توحدت تطلعات السياسيين أيضا فإن ثمة ما يدعو للتفاؤل بأن عملية الإصلاح الواسعة والمعقدة هذه وضعت الآن على طريق النجاح الصحيح. ومما لا شك فيه أن هذا المثال يشكل مصدرا للأمل في أن يحقق ذلك تقدما لقطاع الخدمات أيضا في ظل أجواء الأسواق الحرة، ومن المؤمل أن يشكل هذا النموذج درسا للبنوك.