التقارب الثقافي يؤهل المشرق لتقديم مصرفية إسلامية متطورة في المغرب العربي

التقارب الثقافي يؤهل المشرق لتقديم مصرفية إسلامية متطورة في المغرب العربي

ظلت المصرفية الإسلامية لسنين عديدة لا يكاد يسمع بها أحد في المغرب العربي. وفي حين أن الخدمات المالية الملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية ظلت هامشية فقط، لم يكن هناك طلب واضح محدد على المنتجات التي من هذا القبيل يمكن للمرء أن يضع يده عليه. واليوم فإن تطور الساحة المالية لشمال إفريقيا يمهد الطريق للظهور التدريجي للمصرفية الإسلامية في المنطقة.
إن الوجود المحدود حالياً للمصرفية الإسلامية في المغرب يمكن تفسيره إلى حد كبير بالاختلاف في الاجتهادات الفقهية الموجودة تاريخياً في العالم الإسلامي. وهناك تفسير يتسم بقدر أقل من المحافظة للشريعة الإسلامية في شمال إفريقيا كان من شأنه أن يُنظر إلى المصرفية الإسلامية على أنها أقل جاذبية مما يراها أهل منطقة الخليج العربي.
أما الآن، وحيث إن بلدان شمال إفريقيا تسعى بصورة متزايدة نحو الاستثمار لتمويل التنمية الاقتصادية، فإن بلدان المشرق تظهر على أنها الشريك الطبيعي في هذا المقام. فالتقارب الثقافي بين المشرق والمغرب يؤهل المشرق لتقديم مصرفية إسلامية متطورة منذ الآن، بما يتماشى بصورة طيبة مع الاحتياجات الخاصة للمغرب.
إن ستاندارد آند بورز لا تعطي رأيها في مدى التزام الخدمات والمنتجات البنكية التي تقدمها المؤسسات المالية الإسلامية وتمسكها بأحكام الشريعة الإسلامية، ولا تعطي رأيها كذلك باختلاف الفقهاء في الاجتهادات الخاصة بالأحكام الشرعية فيما يتعلق باختلاف الاتجاهات الفكرية الموجودة في العالم الإسلامي. وإنما نرى أن هذه الأمور هي من اختصاص المجالس الشرعية المعنية بمدى الالتزام بالأحكام الشرعية.

التمويل الإسلامي يعتبر غريبا على المفهوم البنكي لسكان المنطقة

إن الاختلافات الواسعة في الاجتهادات الفقهية موجودة بين المدارس المختلفة للفكر الإسلامي. وتفسر هذه الاختلافات إلى حد ما الدرجات المختلفة للحيوية المتعلقة بالمصرفية الإسلامية التي نستطيع أن نراها في المناطق الفرعية المختلفة في العالم الإسلامي. وهذه الاختلافات، وهي ذات طبيعة ثقافية ودينية أكثر منها ذات طبيعة سياسية بحتة، تفسر إلى حد كبير افتقار المصرفية الإسلامية إلى الجاذبية في معظم شمال إفريقيا، حيث كان الإقبال ضئيلاً على هذا النوع من التمويل من قبل السكان.
إن التطور المحدود للتمويل الإسلامي في المغرب العربي يمكن أن يُعزى جزئياً إلى المفهوم الموجود في أذهان الناس عن هذا الأنموذج المصرفي في بلدان المغرب. فالتمويل الإسلامي يعتبر منذ وقت طويل غريباً تماماً على الثقافة البنكية للمنطقة وهو مستورد إلى حد كبير من أطراف المشرق العربي.
إن من الشائع تماماً بالنسبة للبنوك الإسلامية أن تقترح أدوات تمويلية بمعدلات أعلى من المعدلات التي تطلبها البنوك التقليدية. وهذا الأمر مقبول تماماً في بلدان الخليج العربي، على اعتبار أن المستوى الائتماني للعملاء هناك أعلى منه في شمال إفريقيا. إن عملاء البنوك في شمال إفريقيا يسعون بصورة أكبر إلى تقليل التكاليف المرتبطة بالخدمات البنكية. ومن هذا الباب، فإن المقترض من شمال إفريقيا يجد عموماً أن من الصعب عليه القبول بدفع مبلغ مقابل خدمة الإجارة يزيد عما يدفعه مقابل الخدمة التقليدية لمجرد أن الإجارة تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، في حين أن الخدمة التقليدية لا تفعل ذلك.
أخيراً، فإن السرعة التي انفتحت بها بلدان الشمال الإفريقي أمام بقية العالم تعني أن البنوك هناك لها كل المصلحة في أن تصبح بنوكاً حديثة، وأن تطبق على نفسها معايير الجودة المطبقة في البنوك الأوروبية والأمريكية، وذلك ليصبح في مقدورها اجتذاب أفضل العملاء، وهو أمر لا يُنظر إليه على أنه منسجم مع صورة المصرفية الإسلامية.
إن القيود السياسية التي يمكن أن تعوق انتشار المصرفية الإسلامية في بلدان المغرب العربي هي أبعد ما تكون عن أهم الأسباب في هذا المقام. فالمصالح والمخاطر الثقافية والدينية والاقتصادية الجزئية تشكل آليات تتسم بقدر من القوة بما يكفي لإعاقة انتشار المصرفية الإسلامية في شمال إفريقيا على نحو ما تفعل القيود السياسية، وهي صورة مغايرة تماماً للنشاط المشتعل للمصرفية الإسلامية في الخليج العربي وماليزيا.
إن البنك الإسلامي التقليدي الذي يرغب في المحافظة على احترامه للأحكام الشرعية يمكن أن يجد نفسه لا يجتذب إلا عملاء من عامة الناس، الذين يتميزون بقدر أكبر من الحساسية فيما يتعلق بالأمور الدينية ولكنهم أقل ربحية وأكثر خطورة، وإن كان هذا الأمر سيستبعد أن يظهر البنك وهو يعطي صورة عن نفسه بأنه بنك يتمشى مع أحدث الممارسات الإدارية، وفي الوقت نفسه، يظهر وكأنه في طليعة التكنولوجيا. وبهذا المعنى فإن البنك الإسلامي في شمال إفريقيا سيُدفع بصورة طبيعية إلى ممارسة الاختيار التلقائي للعملاء السيئيين، على العكس تماماً من الوضع الذي يجد فيه نفسه البنك الإسلامي الخليجي، الذي يتمتع عملاؤه في قطاع التجزئة في المتوسط بجدارة ائتمانية أعلى بكثير من نظيره المغربي. وفي هذه الحالة، فإن البنك سيراكم الديون الرديئة، وسيواجه قدراً كبيراً من الصعوبة في الوفاء بضماناته نظراً لطابعه "الأخلاقي"، الذي يتمشى جنباً إلى جنب مع وضعه كبنك إسلامي. وسيجد البنك الإسلامي صعوبة أكبر في استرداد ديونه من الأسر التي عجزت عن التسديد.

تطور النظام المالي الإسلامي في بلدان المغرب العربي ينبغي أن يتم بشكل تدريجي

بشكل عام، يمكن أن يكون التطور التدريجي للبيئة الاقتصادية في المغرب حتى الآن والحذر الذي دأب عليه قادة الشركات فيه على صعيد اتخاذ القرارات هو الكابح الرئيسي المستقبلي للبنوك الإسلامية في المنطقة. ففي المغرب، فإن فكرة وجود بنك إسلامي في الوقت الراهن غائبة بشكل كبير عن الممارسات المالية للمؤسسات الرئيسية. وفي تونس والجزائر، يقتصر نظام التمويل الإسلامي على بنكين فقط هما: بنك التمويل التونسي السعودي وبنك البركة الجزائري، وكلاهما بنكان تابعان للمجموعة المالية نفسها، وهي مجموعة البركة المصرفية التي يمتلك غالبية أسهمها مستثمرون سعوديون.

الاهتمام المحلي بنظام التمويل الإسلامي يحظى بمزيد من الاهتمام

ترافق وجود البنوك الإسلامية في بعض بلدان المغرب العربي مع التطور التدريجي في رأي المشرعين المحليين حوله. فقبل بضع سنوات، لم يكن يتم التطرق إلى موضوع التمويل الإسلامي في الأحاديث العامة والعلنية، ومثل شيئاً غريباً في أحسن الأحوال بالنسبة للمشرعين ولمديري البنوك النشطة في السوق. أما اليوم، فأخذ هذا الموضوع يحظى بمزيد من الاهتمام: المناقشات تأخذ طابع الدقة، واللاعبون في السوق بدأوا يرون فيه محركاً مهماً للنمو من منظور الحصول على حصة في السوق.

المشرق بدأ في الظهور كشريك طبيعي

تعتبر أوروبا وأمريكا الشمالية شريكين سياسيين منذ عهد طويل ليس لأسباب اقتصادية فقط بل بسبب دوافع النفوذ الجيوسياسي في العالم العربي في خضم التحول على هذا الصعيد.
وتشكل السياحة، والعقار والبنية التحتية فئات الموجودات الرئيسية الثلاث التي تستقطب المستثمرين من المشرق إلى المغرب العربي. وتعتبر جميع هذه القطاعات الثلاثة جذابة بشكل خاص من وجهة نظر نظام التمويل الإسلامي. وفي الحقيقة، فإن المبدأ الثاني من مبادئ نظام التمويل الإسلامي يقول إن أي نشاط تمويلي يوافق أحكام الشريعة الإسلامية يجب أن يكون مدعوماً بأصل ملموس أساسي. لذلك، فإن المشاريع الفندقية والعقارية ومشاريع البنية التحتية تتفق بطبيعتها مع هذه الأحكام. وإن الطلب الصادر عن بلدان المغرب لتمويل هذه القطاعات يندرج بشكل طبيعي مع العروض التي تتفق مع الأحكام الشرعية.
وتصدر هذه العروض بشكل أساسي عن جيل جديد من البنوك الإسلامية في الخليج غير المتخصصة في خدمات الوساطة البنكية التقليدية بل في خطوط عمل البنوك الاستثمارية. وأفضل الأمثلة على هذا الجيل الجديد من الوسطاء الماليين بنك أركبيتا وبيت التمويل الخليجي، وبنك يونيكورن الاستثماري وهذه البنوك تستحوذ على الأموال التي تسعى المؤسسات والعائلات الثرية إلى استثمارها وإعادة تدويرها في مشاريع صناعية وعقارية وفي مشاريع البنية التحتية التي تدر عوائد عالية.
إن ظهور البنوك الاستثمارية الإسلامية يساعد في تحقيق هدف مزدوج: فمن ناحية، فإنه يضمن إعادة تدوير السيولة المتأتية من الخليج في فئات مربحة من الموجودات التي تعتبر مرغوبة بين الاستثمارات المتفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ناحية أخرى، فإنه يمكن أن يخصص السيولة الفائضة إلى ناحية ثقافية تعتبر قريبة وغير مستغلة بشكل كاف على الصعيد الاقتصادي، وبحاجة إلى استثمار مباشر أجنبي. ونتيجة لذلك، يمكن لنظام التمويل الإسلامي أن يدفع بجزء كبير من التمويل المستدام من المشرق إلى المغرب، وخاصة على صعيد تمويل مشاريع البنية التحتية والسياحية والعقارية.

هناك إمكانات كبيرة للتطور الذي ينبغي أن يكون تدريجياً

إن تخلف نظام التمويل الإسلامي في بلدان المغرب العربي مذهل بشكل خاص في ميدان الخدمات الفردية للبنوك. ورغم ذلك، فإن التقارب بين نظام التمويل الإسلامي وبين الخدمات الفردية للبنوك جلي. فالأسر أولاً وأخيراً هي التي تشعر بالحساسية تجاه الآراء الدينية التي تتعلق بالأمور المالية. وفي ضوء النمو المثير الذي حققه هذا العمل في السنوات الثلاث الماضية، وخاصة في المغرب وتونس، سوف يجد العديد من البنوك الإسلامية في الخليج، والتي تفتقر إلى التنوع الجغرافي أن من المفيد أن تحصل على موطئ قدم لها في خدمات التجزئة المصرفية في بلاد المغرب.
وفي هذا التوسع لسوق الخدمات المصرفية للبنوك، تعتبر المصالح الاجتماعية وبالتالي السياسية على قدر من الأهمية. ولذلك، ما من شك في أن السلطات المحلية المسؤولة عن التشريع والإشراف على الأنظمة البنكية في البلدان المعنية ستلعب دوراً في فتح حدودها للمؤسسات المالية الإسلامية الموجودة في الخليج. وفي الحقيقة، فإننا نعتقد أن تطور نظام التمويل الإسلامي في بلدان المغرب العربي ينبغي أن يكون مبنياً على الاختيار الدقيق، وأن من المؤكد أن المشرعين في شمال إفريقيا لن يسمحوا بدخول عدد كبير من المنافسين الإسلاميين إلى بلدانهم.
ولكن ينبغي أن تتم الإشارة إلى أن المنافسة المصرفية في أكثر بلدان المغرب نضجاً من الناحية المالية (المغرب وتونس) آخذة في الازدياد، ونتيجة لذلك، يمكن أن يمثل نظام التمويل الإسلامي وسيلة جيدة لتحقيق التميز الاستراتيجي خارج الاستراتيجيات التقليدية فيما يتعلق بالأسعار والجودة.
ومن المحتمل أن يدخل نظام التمويل الإسلامي إلى بلدان المغرب العربي بشكل تدريجي. فقد أعلن بنك المغرب في 20 آذار (مارس)2007، أنه أصبح مسموحاً للبنوك المصرفية أن تقدم خدمات مصرفية تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية. وفي الوقت الراهن، يقتصر هذا السماح على ثلاثة منتجات هي: الإجارة والمرابحة (عقد شراء وإعادة بيع سلعة أساسية بما في ذلك تخفيض السعر أو رفعه) والمشاركة (الشبيهة بهيكل تمويلي ذي ملكية مشتركة).
وعلى النحو نفسه، أحرزت تونس من جانبها تقدماً كبيراً على صعيد التمويل الإسلامي عبر تبنيها في شهر شباط 2007 قانوناً يتعلق بإيجاد مؤسسة إسلامية دولية" بالاشتراك مع البنك الإسلامي للتنمية الذي يبلغ رأسماله المصرح به ثلاثة مليارات دولار أمريكي. والهدف من هذه المؤسسة هو الإسهام عبر أنشطة التمويل الإسلامي التي تمارسها في تعزيز التجارة بين البلاد العربية في المغرب والمشرق.
وأخيراً، فإن وجود بنوك في القطاع العام يمكن تخصيصها في كل بلد من بلدان المغرب العربي قد يكون عامل جذب للبنوك الإسلامية الموجودة في المشرق العربي والتي ترغب في التوسع الخارجي: ففي المغرب، يوجد بنك الإقراض الصناعي والفندقي، وبنك الإقراض الزراعي اللذان يمكن عرضهما للبيع، وفي تونس، من المرجح أن يحدث تغيير في المساهمين المؤسسين للبنك التونسي الكويتي، وفي الجزائر، فعلاوة على بنك الإقراض الشعبي، هناك بنوك أخرى في القطاع الحكومي تتطلع إلى أن تقوم جهات خاصة بشرائها.

الأكثر قراءة