التحرر من موروثات الفكر

كثرة التعاريف بين المفكرين والفلاسفة لتعريف كلمة" التفكر" مع تعددها كان الاختلاف فيما بينها بسيطا ولكنها كانت تصب في معنى موحد بينها وهو "عمل يقوم به العقل لإدراك ما يقوم حوله" بالطبع لا يمكن لأي إنسان أن يكون مفكرا, ولكي يصل الإنسان إلى أن يطلق عليه هذا اللقب لا بد أن يمر بمراحل مختلفة في حياته يكون نتاجها حصيلة من الثقافات والعلوم يعتقد ويؤمن بها. المرحلة الأولى وهي مرحلة عامة يعيشها أغلب الناس تكون نتيجة ثقافة معينة منتشرة في المجتمع الذي يعيش فيه مثل العادات والتقاليد. المرحلة الثانية هي المرحلة التي تعد متقدمة حيث لا يمر بها كثير من الناس, وهي مرحلة الربط ومعرفة الروابط بين المؤثرات من حوله, مثل الروابط التي تربط المجتمع, المستوى التعليمي والثقافي وتأثيرها في تصرفات الأفراد داخل هذا المجتمع. والمرحلة الأخيرة وهي التأثير فيها.
إن الفارق البسيط جدا الذي يفرق بين الفيلسوف والمفكر, الذي قد لا يكون واضحا لكثير من الناس في المجتمعات, إن الفلاسفة غالبا لا يقومون بعمل معين ولا يقرنون نتائج أفكارهم بتصرفات تؤثر في الآخرين. قد يصل المفكر إلى درجة الفيلسوف في المعرفة ولكن يميزه عن الفيلسوف أن لديه دورا نشطا في الحياة اليومية يؤثر به في الناس.

كثير من الدول التي تطلق العنان للتفكر وتفتح مجالا له مثل الولايات المتحدة تجدها من الدول المتقدمة التي ينتشر فيها العلم والمعرفة بشكل ملحوظ في مجتمعاتهم ويعود ذلك بالمنفعة لهذه الدول ولغيرها من الدول القريبة والبعيدة نتيجة تطبيقهم هذا الفكر. ويمكن اعتباره عاملا رئيسيا لتقدم تلك الدول, بينما المجتمعات التي تضيق وتمنع التفكر وتحدده بحدود قد تشكل ضغوطا على أفراد في ذلك المجتمع, وتكون نتائجه نشوء انحرافات في جماعات وفرق باطنة تحمل أفكارا مدمرة تجتاح المجتمع في أي لحظة, بذلك تشكل خطرا على مصير الأفراد في هذه المجتمعات. إن حرية الفكر تهتم بانتشار الوعي لدى أفراد المجتمع لكي يصبح مجتمعا واعيا لا يساعد على زرع وانتشار هذه الجماعات والفرق التي تقوم بنشر الفساد الفكري.
لا يمكن أن يطلق العنان للفكر دون أن تلازمه حرية في التعبير, حيث إن المجتمع لن يستفيد إذا وجدت الفكرة عند أحد الأفراد ولم يعبر عنها ويناقشها مع الآخر. إنها الوسيلة الوحيدة التي توصل هذه الفكرة إلى واقع التطبيق في المجتمعات, وكم من أفكار تلاشت ويرجع ذلك لعدم قدرة الأفراد على البوح بما في داخلهم وطرحه للنقاش مع الآخرين, خوفا من سيطرة ثقافة مجموعة معينة في ذلك المجتمع وتمكنهم من توجيه الفكر في اتجاهات محددة, وبذلك يكونوا قد قاموا بقتل ثمار العقول, وتقييد حرية الفهم وتخلف المجتمع.

إن الفكر يعد مصلحة للأمة ككل تتجاوز الأفراد فلا يفهمها من ينقاد للمصالح الخاصة ولا يدرك أهميتها الذين يفكرون في رغباتهم والذين تغلب عليهم صفة الأنانية وأيضا من لا يأخذ معنى حرية الفكر هروبا من أي التزامات يقدمها.
ومع تعدد مصطلحات الفكر في كثير من المجتمعات في وقتنا الحاضر قد يختلف أو يتفق عليها الأفراد فإذا أخذنا "الفكر الإسلامي" مثالا, حيث يكثر النقاش والجدل في هذا المصطلح من منطلق أن الدين الإسلامي دين منزل من عند الله, عز وجل, ولا مجال لإطلاق العنان للفكر فيه, خصوصا في أمور محددة مشروعيتها من خلال الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي رويت عن سيد الخلق سيدنا محمد, صلى الله عليه وسلم, الذي قام فيها بتوضيح الآيات القرآنية وتفسير تعاليم وآداب الدين الإسلامي, وإن ظهرت بعض المستجدات والأمور فإن المرجع في فهمها يكون للعلم وليس للفكر. كثيرا ما نرى في المجتمعات الإسلامية من يتكلمون عن الإسلام باسم الفكر ومنهم من تعج سيرهم بالأخطاء الكثيرة وفي النهاية يسمى "مفكرا إسلاميا", هو مفكر ليس بالإسلام وإنما يفكر بوجهة نظره هو وبطريقته وبما يهوى ويريد, ومنها ظهرت جماعات نشرت الدين الإسلامي بطريقة وبتفسير غير الذي نزل به وعرف عنه, وبذلك شكلت خطرا على المجتمعات الإسلامية.
يخاطب الله, عز وجل, في القرآن الكريم فئات من الناس مثل المؤمنين, المتقين والمفكرين ويدعوهم إلى التفكر في آياته, سبحانه وتعالى, وليس في أحكامه ولم يخص التفكر هنا بالمؤمنين فقط حتى يطلق عليه الفكر الإسلامي ولكن الله دعا الناس جميعا للتفكر في آياته وقدرته, والتدبر للبشر جميعا في جميع الأديان.
إن إعطاء الحرية للعقل في التفكير في أمور قد حسمت من قبل في الدين ربما يشكل عاملا رئيسيا للتشتت الذي تعيشه الدول الإسلامية في وقتنا الحاضر ويمكن أن يطلق العنان في التفكر لأمور أخرى بعيدة عن الأديان السماوية.
قال أحد الشعراء الفرنسيين منذ زمن إذا دخل المعلم إلى الفصول الدراسية وأعطى معلومة خاطئة فيمكن أن يحطم جيلا بأكمله. وأقول تأكيدا لقول هذا الشاعر إذا نشرت هذه الفئات الإسلامية فكرها الخاص بها في المجتمعات وأطلق العنان لها في الدين فستقضي على دين سماوي بفكر ابتدعوه خاص بهم.
إن الفرق كبير بين حرية الفكر والتحرر من الفكر حيث إنه, كما أشرنا, أن حرية الفكر هي إطلاق العنان للعقل في التفكير وإدراك ما يقوم من حوله بينما التحرر من الفكر هو إعادة التفكير في أمور ومعتقدات ومفاهيم تسود المحيط الذي يعيشه الفرد وإعادة النظر إليه من منظور مختلف وربطها مرة أخرى بالمحيط الذي يعيشه من خلال التجارب والقراءات، بشكل يتوافق مع القيم والمبادئ التي نختار أن نسير بموجبها.
إن تحرير الفكر هو الخروج من الإطار الفكري الذي تربينا عليه وتوارثناه من مجتمعنا والنظر إليه نظرة لا نكون طرفاّ فيها ومقارنتها بالفكر وبوجهات النظر الأخرى والاختيار منها, وبذلك يكون المجتمع قادرا على تحرير الفكر من هذه المعتقدات التي تسود بالوراثة على مر السنين.
قال الله تعالى "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (69). صدق الله العظيم ـ سورة النحل.

سيدة أعمال

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي