مصير ريالنا في عصر الدولار الآفل!

[email protected]

كانت رسالة محافظ مؤسسة النقد من تصريحاته التي نشرتها "الاقتصادية" في الأسبوع الماضي، بعدم وجود نية لتغيير سعر صرف الريال بالدولار واضحة, ووصلت للدوائر النقدية والمالية المحلية والعالمية. لأنها على الأقل وضعت حدا للتكهنات باحتمال إقدام مؤسسة النقد على هذا التغيير، ما قضى على المضاربات حول الريال في مهدها. لكني مازلت أعتقد أن الوقت أصبح مناسبا جدا لرفع سعر صرف الريال مقابل الدولار للمبررات الموضوعية التي سقتها في مقالي قبل أسبوعين. وأهمها أن مستقبل الدولار هو على انخفاض مستمر، فجميع الدراسات المنهجية تدل على ذلك. والحقيقة أن المشهد الاقتصادي العالمي يتغير، فهناك قوى جديدة تبرز وأخرى تتراجع قوتها النسبية. وليس غريبا أن يتراجع عصر الدولار، فقد ولى قبله عصر الاسترليني، فيما نرى صعودا لعصر اليورو . وهذا يقتضى أن ننوع أيضا احتياطاتنا التي تقدر بنحو 120 مليار دولار، بضم اليورو إليها. علينا أن نقرأ خريطة التغيرات الاقتصادية العالمية جيدا، وندرك أن الوزن النسبي للاقتصاد الأمريكي في تراجع وفقا لبيانات أداء هذا الاقتصاد. فبعد أن كان الدولار يشكل نحو 90 في المائة من عملات الاحتياط لدى البنوك المركزية في مختلف دول العالم، تراجع منذ بداية القرن الحادي والعشرين لنحو 65 في المائة، وهو في تراجع مستمر. فقد أشار بحث صدر (2005م) عن المكتب الوطني للبحوث الاقتصاديةNational Bureau of Economics Research NBER)) إلى أنه من المتوقع خلال الـ 20 عاما المقبلة أن يصبح اليورو عملة التداول والاحتياطي الأولى عالمياً.
القرارات الاقتصادية مثل الأدوية، لها إيجابيات وسلبيات، والاعتماد هو على المحصلة النهائية. إن مقاييس التكلفة والعائد من الاستمرار في الاحتفاظ بهذا السعر الثابت للريال أمام الدولار الواهن، تظهر حاجتنا إلى رفع سعر الريال وسيلة لمواجهة التضخم. ودلت على ذلك عدة دراسات صدرت من بعض المؤسسات المصرفية الدولية كبنك جولدمان ساكس.
ومن ناحية أخرى، كان المحافظ قد صرح أيضا بأنه ليس لتدهور قيمة الدولار علاقة قوية بتضخم الأسعار التي يعانيها الناس محليا. واستدل بعدم وجود علاقة بين التضخم المحلي وتدهور سعر صرف الريال بالدولار، بتباين معدلات التضخم بين الدول التي ترتبط عملتها بالدولار. وأدهشني رأيه، فليت شعري! هل ننتظر تماثل معدلات التضخم في جميع الدول المرتبطة بالدولار لنستدل منها على وجود علاقة من هذا القبيل؟ إن تباين هذه المعدلات لا يستدل منه بالضرورة على عدم وجود علاقة بين التضخم وتدهور سعر الدولار، فضلا عن أنه حتى يكون لمثل هذه المقارنات دلالة ومعنى، لا بد من توحيد معايير ومقاييس كثيرة بين هذه الدول وهو أمر غير يسير. إن المؤشرات الاقتصادية تدل على وجود علاقة قوية بين قيمة الدولار المتراجعة والتضخم المحلي. فبقاء ارتباط الريال بسعر ثابت بالدولار المنخفض، هو سبب ظاهر لارتفاع الأسعار محليا في اقتصاد يستورد معظم احتياجاته من الخارج، حيث تستحوذ التجارة على 70 في المائة من ناتجنا المحلي. وإلا كيف نفسر الارتفاع المتواصل في أسعار السلع المستوردة من أوروبا واليابان؟ وهي تمثل ثلثي وارداتنا؟
ثم وصف محافظ مؤسسة النقد التضخم المحلي بأنه محدود جدا، ولا يشكل قلقا كبيرا على الاقتصاد الوطني! وإن كان قد اعترف بالضغوط التضخمية على قطاعي العقارات والإيجار. وهذا ما يدعوني إلى تأكيد ما طالب به كثير من المختصين الاقتصاديين بضرورة مراجعة الطرق الفنية التي يتم بمقتضاها حساب معدل التضخم في المملكة، سواء بالنسبة إلى سنة الأساس المختارة, التي تنسب إليها التغيرات، أو بالنسبة إلى أنواع وأوزان السلع والخدمات الداخلة في حساب مؤشر التضخم. فعندما تنسب التغيرات في الأسعار التي جرت في هذا الشهر إلى تلك المرتفع أصلا والتي كانت عليها في الشهر الماضي أو حتى التي جرت قبل سنة، فإننا لا نلاحظ مقدار التغير كما لو قارنا الوضع الحالي بالوضع قبل ثلاث أو خمس سنوات. وفي كل الأحوال، فإن المهم في المسألة ليس ارتفاع الأسعار في حد ذاته، بقدر ما هو علاقة هذا الارتفاع بمستوى دخول عامة الناس، فإذا ظلت الدخول على حالها فإن الضرر قائم لا محالة. إن ما يعانيه الناس على أرض الواقع من تضخم الأسعار يختلف اختلافا بينا عما يدل عليه مؤشر التضخم في اقتصادنا! فعندما نقول إن معدل التضخم في اقتصادنا هو في حدود 3 في المائة، فمعنى ذلك أن الريال الذي بين أيديهم فقد فقط 3 في المائة في المتوسط من قوته الشرائية! بينما المحسوس والمشاهد عمليا أكبر من ذلك بكثير.
وحاول أن يحصر السبب الرئيس لتضخم الأسعار محليا في الإنفاق الحكومي، وعلى الرغم من أهمية هذا العامل إلا أنه يفسر فقط الجزء المحلي من مسببات التضخم، وهو الجزء الأيسر. لكن في اقتصاد كاقتصادنا يستورد معظم حاجاته من الخارج، فإن الأثر الخارجي المستورد لتضخم الأسعار ( بسبب زيادة التكاليف الخارجية وتدهور قيمة الدولار ) له أثر بالغ في المسألة.
ثم إن زيادة الإنفاق الحكومي ما كان يمكن أن تكون سببا في ارتفاع معدل التضخم، لو تم تنسيق السياسات النقدية والمالية والتجارية والإدارية والتنظيمية بما يناسب الظروف الاقتصادية القائمة. لكننا نرى بطئا ومركزية شديدة في اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب. والإنفاق الحكومي كان يمكن، في الواقع، أن يكون سببا في رواج الاقتصاد لو كانت هناك مرونة في عرض السلع والخدمات. إن ارتفاع أسعار الأسمنت مثلا، بسبب ارتفاع الطلب المحلي مع زيادة السكان وزيادة المشاريع الحكومية، لم يجاريه إزالة سريعة للمعوقات الإدارية والتنظيمية المتعلقة بإنتاج وتصدير واستيراد الأسمنت، وقس على هذا الاختناقات في قطاع الإسكان! هذا القطاع الحيوي المهم المنسي الذي تعطل نموه عقودا بسبب افتقاده نظام الرهن العقاري.
في عصر باتت فيه الأمور والمعلومات والثقافة متاحة للجميع، علينا أن نطور من درجة الإفصاح والشفافية. فلا يصح أن تدل المؤشرات الاقتصادية الرسمية على حال مغاير لما يلمسه الناس ويرونه على أرض الواقع، سواء تعلق الأمر بالفقر أو البطالة أو التضخم أو معدل صرف الريال بغيره من العملات.
إن في حياة الناس العملية ملايين القرارات الاقتصادية التي تتخذ يوميا، وهي لا تقتصر على القرارات الحكومية فقط، بل إن ما يتخذ منها على المستوى العائلي ومستوى نشاط رجال الأعمال أكثر بكثير مما يتخيله معظم الناس. ومن المصلحة أن تتاح المعلومات الصحيحة عن الاقتصاد للجميع، حتى وإن كانت لا تروق لنا ولا نتمناها. لأن توافر المعلومة الصحيحة أدعى لاتخاذ قرارات اقتصادية سليمة تساعد على حل المشكلات. وبما أن المعلومات الإحصائية يمكن أن تقدم بأكثر من طريقة اعتمادا على طريقة حسابها، فلا بد من الإفصاح عن طبيعة هذه الطرق المستخدمة وجعلها خاضعة للدراسة والفحص والنقاش العام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي