تأثير عكسي لحمى البناء والعقارات في مستقبل الاقتصاد الإسباني
يقضي رئيس بلدية العاصمة الإسبانية مدريد البرتو رويز جالاردون معظم وقته في مواقع أعمال البناء، أكثر مما يقضيه في موقع عمله في مجلس البلدية. فأسبوعيا يدشن السياسي مباني جديدة. وكان رئيس البلدية قد استطاع منتصف آذار (مارس) أن يعلن عن أعلى مبنى في إسبانيا موجود الآن في العاصمة مدريد يبلغ ارتفاعه 233 مترا من الزجاج والخرسانة المسلحة والحديد الصلب إنها ناطحة سحاب من أحدث ما يكون.
ولكن البرج الجديد Torre Espacio لن يبقى لفترة طويلة يحمل هذا الرقم القياسي فبجانبه تشيّد ثلاث ناطحات سحاب جديدة، تفوقه كل بناية في الارتفاع. فمع منطقة الأبراج الأربعة التجارية سيتم تشييد مجمع ناطحات سحاب، يفوق كل ما هو موجود لغاية الآن في إسبانيا. كل هذا يعني عملا كثيرا لرئيس البلدية رويز جالاردون بغض النظر عن نوعية المشاريع إن كانت مطارات أو خطوط طرق سريعة أو مباني سكنية جديدة إن مدريد حاليا عبارة عن موقع ضخم لأعمال البناء والتعمير.
وليس فقط في مدريد. فحمى البناء والتعمير منتشرة في إسبانيا أكثر من قبل بكثير. مبان سكنية ومتاحف ومناطق تجارية جديدة، المدن تتلألأ وتتسم بالطابع التجاري أكثر منها بطابع غفوة الظهيرة. وإجمالا، اقتصاد البلاد ينمو بصورة متزايدة ولا يريد أن ينقطع أيضا.
حتى عام 2006 فاق من جديد جميع التوقعات بنمو اقتصادي بلغ 3.9 في المائة. البطالة التي كانت قبل عشر سنوات 20 في المائة، انخفضت في هذه الأثناء إلى نحو 8 في المائة. إسبانيا وبدون منافس تعتبر نجم الاتحاد الأوروبي في النمو الاقتصادي.
ولكن تألق المعجزة الاقتصادية الإسبانية بدأ يتلاشى بصورة سريعة. خاصة كل ما يبدو ناجحا، من مكاتب ومبان سكنية كثيرة جديدة، قد تصبح شرارة. فالنمو العمراني اللافت للنظر ولّد فقاعة أسعار ضخمة. وفي الوقت الحالي ترى منظمة التعاون والنمو الاقتصادي الألمانية أن أسعار الشقق السكنية في إسبانيا تزيد على قيمتها الفعلية بنسبة 30 في المائة، فيما تتحدث بعض التقديرات الأخرى حتى عن نسبة 50 في المائة. وأسعار العقارات الباهظة في الثمن لم يعد في مقدور أحد أن يتحملها. فبينما ارتفعت الأجور بنسبة ضئيلة، ارتفعت أسعار الشقق السكنية خلال الأعوام التسعة الأخيرة، حسب معلومات البنك المركزي الإسباني، بعد تعديل التضخم 130 في المائة.
الاقتصاد الإسباني كان مدفوعا لفترة طويلة من الازدهار الذي فاق كل الحدود في قطاع الاستهلاك والبناء. فالفوائد المتدنية في منطقة اليورو دفعت بالملايين من المواطنين الإسبان إلى أخذ قروض رخيصة، اشتروا بها شققا سكنية، وسيارات وملابس فاخرة في نطاق لم يبد قبل عشرة أعوام متوقعا. في الوقت نفسه قدِم إلى إسبانيا منذ مطلع القرن الجديد ما يقارب أربعة ملايين مهاجر، وهؤلاء أثاروا الاستهلاك الداخلي بصورة أكبر.
والآن، ولأن الفوائد في منطقة اليورو ترتفع من جديد والعديد من الإسبان غارقون في الديون، تقف ثورة الاستهلاك والتعمير أمام منعطف النهاية. فإذا انفجرت الفقاعة، فمن المحتمل أن يؤدي هذا إلى وقوع كل الاقتصاد في أزمة، حيث إن أغلبية الاقتصاد مرتبطة بقطاع التعمير.
ويقول أيميليو أونتيفيروس، أستاذ الاقتصاد في جامعة أوتونوما في مدريد إن وضع الاقتصاد الإسباني بوجه عام أضعف من نظيره في باقي الدول الأوروبية. نحن نمر بمرحلة تركز على قطاعات، لا يمكن تصديرها وتدور بالدرجة الأولى حول قطاع البناء. ويضيف توجد قواعد للمرونة، ولكن هذه عملية بطيئة جدا.
حتى وإن تمكنت إسبانيا من تفادي وقوع انهيار حاد في قطاع العقارات وتمكنت من توقيع استقرار في الاستهلاك الداخلي نوعا ما، ستبقى الدولة تعاني لفترة طويلة من مجموعة لا بأس بها من المشكلات المتعددة. وتحذر منظمات مثل صندوق النقد الدولي منذ سنوات طويلة من التفاقم الرهيب في عدم الموازنة في الاقتصاد.
وعلى خلاف ألمانيا لا تعتبر إسبانيا دولة صناعية قوية يمكن أن تدافع عن مصالحها. بل بالعكس تماما الشركات الإسبانية تفقد منذ أعوام خاصية القدرة على المنافسة - ولم تسهم كثيرا في المعجزة الاقتصادية الإسبانية. فحسب معلومات المفوضية الأوروبية وفر قطاع الصناعة خلال عام 2006 ما يقارب 5 في المائة فقط من الفرص الوظيفية.
المشكلة الرئيسية هي تداعي القوة الإنتاجية. ففي ندوة مناقشة في مدريد قال رئيس البنك المركزي الأوروبي جون – كلود تريشيه بكل صراحة القوة الإنتاجية في إسبانيا لا تعيش في مستوى اقتصاد صناعي. فنسبة معدلات النمو لا تتجاوز صفراً في المائة.
وحسب بيانات مكتب الإحصائيات الإسباني ارتفعت قوة العمل الإنتاجية في العام الماضي 0.8 في المائة فقط، وحتى إن معدل النمو في قطاع الخدمات والبناء تأرجح في النقصان. وحتى هذا لا يعد شيئا جديدا، فجميع الفرص الوظيفية تقريبا والتي توافرت أخيرا في إسبانيا عبارة عن وظائف ذات أجور متدنية - وهي ليست بالوظائف المضمونة أو المنتجة.ولكن الأمل ضئيل في حدوث تحسن .ولكي تستطيع الشركات أن تصمد في السوق العالمية، تحتاج إلى منتجات جديدة. ولكن انتظار هذه المنتجات يطول في العادة كثيرا. والسبب في ذلك الاستثمارات القليلة في قطاع البحث والتطوير.
إسبانيا بعيدة كل البعد لكي يقال بأنها دولة متقدمة تكنولوجيا. ففي دراسة أجراها الاتحاد الأوروبي حول مستوى البحث والتطوير احتلت دول جنوب أوروبا المرتبة السادسة عشرة، متقدمة على قبرص بمرتبة واحدة، وفي مجموعة الدول الزراعية نفسها بلغاريا ورومانيا.
فالجامعات تواجه صعوبة في جعل نتائج أبحاث التطوير لديها جذابة في نظر الشركات الصناعية. ففي إسبانيا في الوقت الحالي، من لديه نقود فائضة عن الحاجة، يستثمرها في قطاع التعمير والبناء، لأن هذا القطاع هو أكثر القطاعات الواعدة بأرباح عالية. ويقول خوسيه مارتي بيلون، بروفيسور الاقتصاد في جامعة كومبلوتينسه في مدريد، ربحية الاستثمارات العائدة في قطاع البناء عالية لدرجة أنه لا توجد حوافز للاستثمار في قطاعات أوفر بالمخاطر. ويضيف هنا يحتاج الأمر إلى رأسمال مخاطر أكبر. وفي الوقت الحالي لا تلقى الشركات الدعم الكافي للاستثمار في قطاع البحث والتطوير.
قوة الإبداع المفقودة لدى قطاع الصناعة تضع الدولة أمام مشكلة. فبينما تلقى الشركات صعوبات كبيرة في ترويج منتجاتها في الدول الأجنبية، يواصل الإسبان بصورة غير منقطعة، الشراء من خارج الدولة.
ومنذ عام 1998 يبني ميزان الإنتاج لنفسه عجزا كبيرا، يزداد من سنة لأخرى، ووصل إلى 9 في المائة من إجمالي دخل الدولة. حتى إن الإيرادات من قطاع السياحة المزدهر لا تكفي لتغطية الفجوة. إضافة إلى ذلك تفقد إسبانيا مواصلة جاذبيتها كموقع استثمار. حيث إن أعدادا كبيرة من المستثمرين الأجانب تنسحب بتزايد مستمر من شبه جزيرة إيبيريـا.
وبالرغم من ذلك تبدي الحكومة الإسبانية تفاؤلها غير المنقطع. فمن جانبه يتوقع وزير الاقتصاد بيدرو سولبس للعامين الجاري والمقبل معدل نمو يراوح بين 3.4 و3.3 في المائة.
في المقابل يرى البنك البريطاني إتش إس بي سي HSBC الأمور من منظور مختلف تماما. فقد أثار كبير خبراء الاقتصاد في البنك البريطاني ستيفن كينج الحيرة في إسبانيا كلها في كانون الثاني (يناير) الماضي، عندما صرّح بتطلعات نمو بنسبة 2.4 في المائة. فقد قال كينج بأن الفوائد المرتفعة سوف تترك أثرا بليغا في الاستهلاك الفردي وفي قطاع البناء المزدهر. وفي المؤتمر الصحافي اختار كينج نوانا جميلا، أراد من خلاله التلميح إلى توقعات متفائلة، حقـا، إنه جميل جدا.