دول أمريكا الجنوبية تودّع صندوق النقد الدولي
بدأ صندوق النقد الدولي يخسر جانبا من عملائه، إذ لم يعد الصندوق مرغوبا فيه في أمريكا الجنوبية بشكل خاص. ومن الجدير بالذكر أن 80 في المائة من قروض صندوق النقد الدولي كانت حتى إلى ما قبل سنتين تتركز في أمريكا اللاتينية، بينما هي اليوم لم تعد تشكل حتى ما نسبته 1 في المائة. فالبرازيل والأرجنتين وحدهما قامتا خلال السنتين الأخيرتين بتسديد قروض لصندوق النقد الدولي قيمتها 26 مليار دولار قبل أن يحين موعد السداد .
وكذلك فنزويلا التي قامت أخيرا بتسديد جميع ديونها لصندوق النقد الدولي . ولهذا قال وزير ماليتها رودريجو سابيزاس: "وداعا أيها السادة في صندوق النقد الدولي وفي البنك الدولي، فقد أصبحت فنزويلا حرة". ومن المعروف أن ما مكن هذه الدول من تسديد ديونها في وقت مبكر هو زيادة عائداتها من تصدير فول الصويا، والنفط الخام، وخامات الحديد وغيرها من المواد الخام الأخرى التي حققت دول أمريكا اللاتينية من ورائها تدفقات قياسية من العملات الصعبة وهو ما مكنها من سد العجز في ميزانيتها بشكل مثير. وقد استفادت أمريكا اللاتينية، كما لم تستفد أي منطقة أخرى في العالم، من تعطش الصين وغيرها من الدول الآسيوية الصاعدة للمواد الخام.
وتحت قيادة فنزويلا والأرجنتين تريد بعض دول أمريكا الجنوبية أن تنشئ لنفسها بنكا خاصا باسم (بنك الجنوب)، لكيلا تضطر مستقبلا أيضا إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي أو للبنك الدولي أو لغيرهما من المؤسسات المقرضة متعددة الأطراف التي تسيطر عليها الدول الصناعية. وفي هذا السياق قال الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز : " لم نعد نستطيع بعد الآن أن نظل تحت رحمة ما يسمى النظام المالي العالمي". وفي الحقيقة أن شافيز ، رئيس دولة فنزويلا التي تطفو على بحر من النفط ، يقوم عمليا منذ فترة من الزمن بدور صندوق النقد الدولي في أمريكا اللاتينية. فالأرجنتين وحدها تلقت من شافيز حتى الآن أكثر من خمسة مليارات دولار من خلال عمليات شراء مباشرة لسندات دين أرجنتينية . وقد ساعد ذلك الأرجنتين على دفع مستحقات صندوق النقد الدولي. وكذلك بوليفيا والإكوادور تم منحهما من قبل شافيز قروضا سخية. هذا ومن المتوقع أن يباشر بنك الجنوب، الذي بادر لإنشائه شافيز نفسه، أعماله خلال السنة الحالية، من خلال فروعه في كاراكاس وبيونس أيريس. أما الرأسمال التأسيسي للبنك البالغ سبعة مليارات دولار فستقوم بدفعه فنزويلا والأرجنتين مما يتوافر لديهما من احتياطي العملات الصعبة. وفي هذه الأثناء أعلنت كل من بوليفيا والإكوادور عن رغبتهما في المشاركة، بينما تميز موقف بلدان أخرى بالتحفظ. صحيح أن جويدو مانتيجا، وزير مالية البرازيل أعرب عن احتمال مشاركة أكبر اقتصاد أمريكي لاتيني في المشروع، إلا أن البرازيل تنظر إلى بنك الجنوب على أساس أنه مكمل وليس بديلا عن مؤسسات أخرى متعددة الأطراف. أما ماركو أوريليو جارسيا، مستشار الشؤون الخارجية للرئيس البرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، فيقول: "الفكرة جيدة، ولكن ينقصها عنصر التماسك الفني".
وكذلك تختلف مواقف اللاتينيين من كيفية التعامل مع صندوق النقد الدولي . والصحيح أن لا أحد في أمريكا اللاتينية يحب صندوق النقد الدولي ، ولكن بعكس شافيز أو الرئيس الأرجنتيني نيستور كيرشنر يمتنع الرئيس البرازيلي دا لولا عن التفوه بأية كلمات جارحة بحق صندوق النقد الدولي . ففي الوقت الذي احتفل فيه كيرشنر بتسديد قروض صندوق النقد الدولي قبل مواعيدها كعمل من أعمال التحرر، كان ذلك في البرازيل بكل بساطة جزءا من عملية التخلص من الديون التي ستضع التعافي الاقتصادي للبلاد على المحك . وفي الوقت الذي لا يود فيه كيرشنر أن يستمع لمزيد من نصائح صندوق النقد الدولي ، تقوم البرازيل تحت قيادة الزعيم العمالي دا سيلفا بالوفاء بكل متطلبات صندوق النقد الدولي .
وجنبا إلى جنب مع سداد قروض صندوق النقد الدولي ، قامت البرازيل في الوقت نفسه بتسوية جميع التزاماتها إزاء البلدان الصناعية ضمن نادي باريس، بينما امتنعت الأرجنتين منذ أكثر من خمس سنوات عن خدمة ديونها لهذه البلدان التي تبلغ نحو ستة مليارات دولار على الرغم من أن احتياطيها من العملات الصعبة سجل رقما قياسيا وصل إلى 37 مليار دولار . كما أن كيرشنر غير راغب في عقد اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وهو الأمر الذي لا بد منه كشرط مسبق للتوصل إلى تفاهم مع نادي باريس. وفي هذا السياق قال كيرشنر في مواجهة رئيس صندوق النقد الدولي، رودريجو راتو بكثير من الحدة: "توقفوا عن توجيه انتقاداتكم لنا ، فنحن قادرون على تحقيق أهدافنا بأفكارنا الخاصة، "وذلك عندما طالب الأخير باتخاذ إجراءات متشددة لمواجهة التضخم في الأرجنتين . ومضى كيرشنر قائلا: "لقد رأينا بأم أعيننا ماذا حل بنا عندما تصرفنا وفقا لتوصياتكم"، وذلك في إشارة إلى سنوات التسعينيات عندما كانت الأرجنتين تعتبر تلميذا مثاليا لصندوق النقد الدولي، ولكنها انزلقت في النهاية إلى أسوأ أزمة اقتصادية عرفتها طوال تاريخها، على الرغم من مليارات من المساعدات التي قدمها صندوق النقد الدولي. هذا وقد طالبت فيليسا ميشيلي، وزيرة مالية الأرجنتين بصفتها متحدثة باسم مجموعة الأربعة وعشرين G-24 الممثلة للبلدان الصاعدة، بإجراء إصلاحات جذرية في صندوق النقد الدولي، لكي تعطى البلدان الصاعدة وزنا أثقل في اتخاذ القرارات ضمن إطار الصندوق. وفي النهاية وجهت ميشيلي النصيحة التالية للصندوق الذي يعاني من صعوبات مالية: إن عليه أن يخفض رواتب العاملين فيه، ابتداء برئيس الصندوق راتو نفسه.