عوائق أمريكية في طريق تطبيق التجارة الحرة
يمكن توجيه العديد من الاتهامات للرئيس الأمريكي، ولكن لا أحد يستطيع أن يتهمه بعدم الالتزام بالتجارة الحرة. فتحت قيادة جورج بوش أبرمت الولايات المتحدة سلسلة من الاتفاقات التي من شأنها أن تزيل الحواجز من طريق التبادل الحر في السلع والخدمات عبر الحدود. وقد نمت قائمة الشركاء في التجارة الحرة، بحيث أصبحت تشمل في هذه الأثناء بلدانا مثل أستراليا, والمغرب, وسنغافورة, وعمان, وتشيلي و جمهورية الدومينيكان. وقبل أيام قليلة أعلنت واشنطن تحقيق نجاح إضافي: فبعد مفاوضات شاقة تم التوصل إلى اتفاق مع كوريا الجنوبية. ويعد هذا الاتفاق من وجهة النظر الاقتصادية أهم اتفاقية للتجارة الحرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ إنشاء منطقة أمريكا الشمالية للتجارة الحرة NAFTA عام 1994
لقد كافح بوش خلال سنوات ومعه المكلفون بالشؤون التجارية ابتداء بروبرت زوليك ومرورا بروب بورتمان, وانتهاء بسوزان شواب, القائمة على رأس عملها حاليا, ضد المقاومة المتعنتة التي يواجهونها في بلدهم ذاتها. وهم على معرفة بالفرص الكبرى المتاحة التي من شأنها أن تفتح أسواقا جديدة للمستهلكين وللشركات الأمريكية, كما أنهم يدركون المخاطر الكبرى التي قد تؤدي لتفتيت الاقتصاد المحلي وقوة العمل. فالاتفاقية مع كوريا الجنوبية على سبيل المثال تفتح الطريق أمام المزارعين الأمريكيين لدخول سوق فيه نحو 49 مستهلكا والتي كانت تعد أكثر أسواق العالم انغلاقا.
إن ما يبعث على الأسف و يدعو للغضب في الوقت نفسه أن طريق التجارة الحرة التي يسير فيها بوش ليست طريقا مستقيمة. ويذكر أن الحكومة قد فرضت قبل بضع سنوات غرامة على شكل رسوم جمركية على الفولاذ الرخيص القادم من أوروبا, من بين أماكن أخرى, على أمل أن تتمكن صناعة الصلب الأمريكية المنهارة من التقاط أنفاسها وإعادة هيكلتها. ولعل أحدث الأمثلة على الانحراف عن الطريق السوي, فرض ضرائب جمركية على منتجات الورق الصينية بهدف توفير فرص متساوية للمنافسة بين المنتجين الصينيين الذين يلقون دعما من الدولة والمنتجين المحليين.
وقبل كل شيء تكمن خطورة إقامة هذه الحواجز في وجه التجارة في أنها تصب الماء في طواحين القطاعات الأخرى في الولايات المتحدة. وبهذا تعرض الحكومة نفسها لمزيد من الضغوط من أجل فرض الرسوم الجمركية على منتجات أخرى من منتجات الصين. كما أن فرض رسوم جمركية معقولة لا يكاد يكون ممكنا لأن من الصعب بدرجة معقولة من الدقة تقدير نسبة الدعم الذي تقدمه الدولة للمنتجات الصينية. وليس بالمستطاع أيضا استبعاد الشكوك حول التلاعب في الأسواق في حالة الصين بشكل خاص. كما أن أخذ قرارات بشأن قضايا كتلك ليس من صلاحية واشنطن وإنما من صلاحية منظمة التجارة العالمية في جنيف.
إن الشك في التزام بوش بحرية التجارة لا ينبغي, بحال من الأحوال, أن يؤدي إلى مثل هذه المناورات. إذ إن الحقيقة تشير إلى أن الميل نحو الحمائية موجود لدى الكونجرس منذ فترة لا بأس بها من الزمن. وعلى الرئيس أن يعير انتباهه لهذه الحقيقة خصوصا بعد أن غيرت انتخابات الخريف الماضي ميزان القوى لصالح الديمقراطيين الذين أصبحوا يسيطرون على مجلسي البرلمان. ومما لا شك فيه أن تزايد المطالبات من قبل أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب بتوفير حماية أفضل للشركات الأمريكية والعمال الأمريكيين ضد المنافسة الأجنبية إنما تعكس حاجة وقلقا لدى جمهرة الناخبين. حيث إن غالبية الناخبين غير معنيين بمزايا التجارة الحرة للمستهلكين والشركات, أي توفر منتجات بأسعار مناسبة, وتشكيلة أكبر من السلع, وأسواق جديدة لتصريف البضائع والخدمات, إذ إن ما يعنيها بالدرجة الأولى هو احتمال ضياع أماكن العمل.
إن العجز المرتفع في الميزان التجاري مع الصين, الذي سجل في العام الماضي رقما قياسيا بلغ 233 مليار دولار, يعده كثير من السياسيين والمواطنين تعبيرا عن ضعف اقتصادي ومدخل لإيقاع الأذى بالولايات المتحدة الأمريكية. غير أن هذا من وجهة النظر الاقتصادية ليس واردا، غير أن الحجة الواردة في هذا السياق بألا أحد من الأمريكيين مجبر على شراء قمصان, أو أحذية, أو أجهزة تلفزيون أو هواتف نقالة صينية رخيصة الثمن، تقابلها حجة أخرى مفادها أن مزيج السعر والنوعية تبدو مقنعة للأمريكيين، وإن لم يتطرق أحد لمناقشتها إلا لماما.
إن الوصفات التي يقدمها المتشككون في حرية التجارة تتراوح ما بين ربط اتفاقيات التجارة الحرة مع البلدان الفقيرة ربطا محكما بالمعايير الاجتماعية الأمريكية وشروط المحافظة على البيئة، و بين تقديم مساعدات سخية لأولئك الأشخاص الذين يفقدون أماكن عملهم بسبب التجارة. ومن المؤمل ألا ينثني بوش لهذه الضغوط. إذ قد يكون تقديم الدعم لفترة زمنية محددة, مثلا على هيئة علاوات، لتوسيع الأعمال, عملا له ما يبرره خصوصا إذا كانت إزالة الحواجز من أمام التجارة الحرة قد تسببت فعلا في ضياع بعض أماكن العمل. غير أنه ليس من بين واجبات الحكومة أن توفر مقومات الحياة لكل مشروع خصوصا إذا لم يعد قادرا على إثبات نفسه في مجال المنافسة.
ومن الخطأ في الوقت نفسه إجبار الشركاء التجاريين من البلدان الفقيرة على الالتزام بالمعايير الأمريكية في مجالي العمل والبيئة. حيث إن ذلك يحرم هذه البلدان ميزة السعر وهو ما يفتح لها الطريق لدخول الأسواق الأمريكية.
وعلى صخرة الحماية في الكونجرس يمكن أن تتحطم محاولات جورج بوش اللاحقة لتوسيع نطاق التجارة الحرة. وهذا لا يعني في خاتمة المطاف فقط مفاوضات جولة الدوحة لمنظمة التجارة العالمية. ومما لا شك فيه أن إنقاذ هذه المفاوضات يعتمد إلى حد كبير على ما إذا كان مجلس الشيوخ ومجلس النواب سيحددان التفويض الممنوح لبوش لعقد اتفاقيات للتجارة الحرة إلى ما بعد حزيران ( يونيو).
وفي الختام يمكن القول إن مقاليد تسهيل التجارة الحرة هي في يد الكونجرس وليس في يد البيت الأبيض.