المونولوج.. الفن الذي أضحك الشعب وهزم المستعمر
انطلاقا من أهمية معرفة المستمع بخصائص ما يسمعه تحدثنا في عدد سابق عن فن الزجل وتناولنا تعريفه وأهم رموزه، وها نحن نعود اليوم مع فن جديد في تناولنا له وقديم في جذوره التي تضرب في ثلاثينيات وعشرينيات القرن في بلادنا العربية.
بداية يقول المؤرخ الفني محمد رجب في كتابه "رواد المونولوج": "المونولوج من الفنون الغنائية التعبيرية التي تقدم عبر المسرح في فواصل نقدية استعراضية ويعبر عن موقف ما، بشكل كوميدي ضاحك، ونسب إلى المدارس والنشاط المنهجي دخوله للمملكة كلون فني عرف في مصر وأن بدايته كانت في الثمانينيات الهجرية أي ستينيات القرن الماضي الميلادي".
وهذا المصطلح مركب من قطعتين ذات أصل يوناني "مونو" وتعني فرد أو فردي و"لوج" بمعنى أداء أو إلقاء ليصبح المعنى "الأداء الفردي" ليتضح اختلاف المونولوج عن فن "الديالوج" وهو بفتح الدال وتكتب أحيانا "دايالوج" ومعناها الحوار بين اثنين أو الأداء المزدوج أو الثنائي.
يكتب المونولوج عادة بالعامية وأحيانا أخرى بالفصحى، أو يجمع بينهما، متنقلا بين الأوزان الشعرية المختلفة ليروي لنا قصة لها بداية وخاتمة يتخللها مضمون ذو هدف، يرويها المؤدي بتهكم وسخرية لاذعة لمجريات الواقع، ولا يشترط فيه سوى التقيد كسائر القوالب الفنية في نهايته بالمقام الذي بدأ به لحنا وغناء، وكغيره من الفنون فقد تنوعت أهدافه التي ينشدها، فمن المونولوج الوطني الذي يتغنى بالوطن وحبه والتذكير بأمجاده وفضله علينا، وما يجب علينا تجاهه، بلحن حماسي ينسجم مع كلماته، مرورا بالمونولوج الوصفي الذي يتحدث ويصف حالات الإنسان المختلفة المتقلبة بين الفرح والحزن، إلى المونولوج الغزلي الذي تكتب موضوعاته في الغزل بكل أشكاله، ووصولا إلى المونولوج الفكاهي الذي يستخدم شعر الزجل جسرا للوصول إلى الفكرة في إطار تهكمي كوميدي ساخر، تميزه سهولة اللحن وسرعة الإيقاع الذي يخدم الفكرة وقد تميز في هذا اللون كثيرون في مصر كنجيب الريحاني وإسماعيل ياسين، ومحمود شكوكو، الذين أسهمت السينما بشكل كبير في إيصال إبداعاتهم في هذا المجال في الفترة التي سميت عصر النهضة الموسيقية في مصر، التي قيل إنها تقهقرت منذ أن اعتزل محمد القصبجي التلحين وتوقف محمد عبد الوهاب عن تعاطي هذا اللون.
أما في العراق وسورية على سبيل المثال فكان المونولوج سيفا وبندقية لمحاربة الظلم، إذ تحول في العراق إلى خطاب سياسي أحرج السلطات وحارت به، فالفنان عزيز علي صاحب المونولوجات ورائدها الأول في العراق، وصل إلى قلب كل مواطن في وقته وتحدث باسمه وطالب بحقوقه وتذمر نيابة عنه وكان المتنفس لما يشعر به هذا المواطن من ضغوط سياسية واقتصادية لسنوات في إذاعة بغداد، ولكنه طورد وطرد وسجن وفصل من عمله، وقبلها من مدرسته عقابا له على جرأته ووأدا للسانه، الذي كان يجلد به كل مسكوت عنه بمونولوجاته التي تناقلتها الألسن وحفظتها الصدور، كتب شوباش، عيش وشوف، دكتور، الطاوة محروكة، الراديو، بستان، أنعل أبو الفن، توفي عزيز في 1998م مخلفا وراءه عشرات "المقالات" – كما يسميها - وآلاف القلوب التي تذكره حتى لحظة كتابة هذه الأسطر.
أما في سورية فمن غير سلامة الإغواني الذي يعتبر مرحلة فنية قائمة بذاتها وهو الناقد في مونولوجاته الاجتماعية والسياسية على مدى 50 عاما من الإبداع والعطاء، تنقل الأغواني بين مهن مختلفة إلى أن استقر سائقا لسيارة، وقد أوحت له هذه المهنة تأليف أغنية تمثل حال سائقي السيارات، ومنها:
نحنا الشوفيرية ونحنا يا جدعان
نركّب بالماكينة أشكال وألوان
كم داعينا ينادي
طالب بحقوق بلادي
يا ما سمعوها عباد
عملو حالن طرشان
انتشرت هذه الأغنية كثيراً بين الناس، لينطلق بعدها الإغواني مؤلفا ومؤديا محترفا للمونولوج، وقد زاد تألقه بعد تعرفه على الموسيقي صبحي سعيد الذي لحن له مونولوجاته التي انتقدت المستعمر، والتي ساهمت في دخوله لعالم الشهرة ولدخوله السجن في ذات الوقت، فقد نال بشدة من المحتلين في أغانيه وطالبهم بالرحيل عن الوطن مما أشعل الغضب وأجج الثورة ضد المحتل الذي فجر غضبه في الإغواني فاعتقله عدة مرات ونفاه خارج البلاد لفترات.
هاجم الأغواني الاستعمار حتى تم الجلاء، وبعد الجلاء قدم مونولوجات اجتماعية تناولت جوانب الحياة، فكان بطلا ومجاهدا بالكلمة قبل الجلاء ومصلحا اجتماعيا بعده، فالأغواني لم يكن مجرد زجال ومونولوجست وإنما كان مناضلا وطنيا ضد الاحتلال استعمل في أزجاله وكلمات مونولوجاته لغة عامة بسيطة يفهمها العامل والفلاح والأمي والمتعلم لذلك لاقت هذه المونولوجات انتشارا واسعا بين صفوف الشعب.
وحيث بدأنا برجب كان لزاما أن نختم به، إذ استعرض في كتابه "رواد المونولوج في المملكة ومصر" المونولوج وتاريخه ودوره في توجيه الفرد والمجتمع، وتطرق إلى نجوم هذا الفن، وأهم من كتبه مثل حمدان صدقة ونجيب بطيش وأحمد قنديل وهاني ميروزي وسعود الشيخ وعزمي كنانة وفيصل البركاتي، وملحنيه مثل محمد شفيق وعبد الله ماجد وعبده مزيد ومحمد شاكر ورياض سيف الدين ومحمد المغيص وسراج عمر وفيصل كريم، ومؤديه مثل حسن دردير وعبد العزيز الهزاع وسعيد بصيري ولطفي زيني وعبد الله الصائغ ومحمد حبادي وعبد الكريم باحشوان وغيرهم الكثير.