صقر أبو فخر.. 3 دالات وقارئ بين الخجل والغضب
قد لا يكون من المبالغة القول إن قارئ كتاب صقر أبو فخر.. بأحرف "الدال" الثلاثة في عنوانه ربما وجد نفسه في ما يتعلق بتخلف العرب الحضاري.. متأرجحا بين حالين.. شعور بالخجل وآخر بالغضب الشديد.
وهذان الشعوران ينتجان كما رأى بعض من قرأ الكتاب عن تعرية مؤلمة لكثير مما نستتر به من ممارسات ومعتقدات وما يشبه هذه وتلك في حياتنا اليومية والثقافية والوطنية. وكتاب صقر أبو فخر مع ما قد يثيره من مشاعر على اختلافها بين إيجابية وسلبية ليس كتابا عاطفيا، بل إن صاحبه مع كل الغضب والسخرية والمرارة التي تفيض من كلماته.. توخى فيه الموضوعية والمنهج العلمي. ووفق في ذلك إلى حد بعيد. أما اسم كتاب المؤلف والباحث الفلسطيني فهو "الدين والدهماء والدم.. العرب واستعصاء الحداثة".
الكتاب الذي صدر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" جاء في 287 صفحة كبيرة القطع. وعنوان الكتاب نفسه معبر ومؤلم واتهامي خاصة في شقه الثاني أي استعصاء الحداثة.
الكتاب تناول مجالات مختلفة عديدة. ولعل في ذكر عناوينه الرئيسية دون الفرعي منها والتفاصيل العديدة ما يعطينا فكرة عن التنوع فيه. جاءت عناوين الأقسام الستة الرئيسية على الصورة التالية.. "الإصلاح والعلمانية.. الديمقراطية والشورى" و"شيوخ الحسبة وفتاوى الدم" و"التاريخ والأسطورة وعبادات الأسرار" و"بلاد البحر وبلاد الصخر" و"العنصرية وقيم البهورة". وقد تناول أبو فخر من خلال ذلك موضوعات كثيرة راوحت بين الديني والفكري والاجتماعي والسياسي والأدبي وغير ذلك.
قراءة الكتاب قد تجعل القارئ الذي يتمتع بقدر من انفتاح الذهن يشعر أن صقر أبو فخر يطلق من صفحاته صوتا صافيا علمانيا وعلميا ووطنيا وإنسانيا.. صوت من تلك الأصوات القليلة شبه النادرة في هذا الزمن الذي يستعمل كتاب ورجال فكر لوصفه تعبير "الزمن الرديء". ولعل بعض ما جاء في المقدمة يختصر كثيرا من المادة الكثيرة والمتنوعة التي وردت في الكتاب الذي اتسم بجرأة ضرورية تعيد فتح الأذهان والعيون على ما جعلته أيام الركود الفكري يتحول إلى ما يشبه يوميات الحياة في عالمنا العربي.
قال أبو فخر معيدا القارئ إلى مسلمات قديمة نسيها العقل العربي السائد أو كاد "من البديهي القول إن العلم واللاهوت لا يمكن أن يلتقيا في الكثير من المسائل الخلافية الشائكة..." يضيف "كانت غاية التنوير في القرن الثامن عشر الذي يقض مضاجع السلفيات والأصوليات في القرن الحادي والعشرين.. هي تحرير الإنسان من سطوة رجال الدين وسلاسلهم وتحرير العقل من كابوس اللاهوت وقيوده، وبهذا المعنى فإن التنوير في العالم العربي اليوم يعني انتصار العلم على الغيبيات وانتصار العقلانية على الخرافة وانتصار الديمقراطية على الخلافة، أي أن مشروعية السلطة لم تعد تأتي من الله بل من الشعب".
ويقول "لا يمتلك الفقهاء العرب ـ إلا القليل منهم - أي مقدرة على النظر إلى المستقبل إنما ديدنهم الوحيد هو النظر إلى الخلف أو في ما وراء القبور. وهذا يريح الحكام الذين فقدوا منذ زمن بعيد القدرة على النظر أصلا وصاروا لا يمتلكون إلا معاول لحفر القبور. "وهذا الكتاب مرصود لا لذم الدنيا - وهي حرفة الفقهاء- بل لنقد الفقهاء والسلاطين معا وهو يعلن انحيازه إلى الحياة والحرية وإلى الثقافة النقدية المتمردة.. هذه الثقافة التي بات أنينها اليوم هو الشاهد الوحيد على بقائها".
وفي قسم آخر من الكتاب يتساءل أبو فخر "هل ثمة فارق بين "العقل العربي" و"العقل الغربي"؟" ويقول "في محاولة الإجابة وفيما يتخطى العوامل الجغرافية والمناخية: أرى أن العلة ربما تكمن في البدايات الأولى أي في "العقل التأسيسي" مع التحفظ عن دقة المصطلح. وللمقارنة فإن "العقل الإغريقي" الذي نشأ في الجزر البحرية المتناثرة وفي لجج المجازفة والتحدي ابتدع مفهوم البطل التراجيدي والأقدار المتعاكسة معا. أي أن الفرد المأساوي يعرف قدره منذ البداية ومع ذلك فهو لا ينفك متحديا أقداره متوسلا تغييرها". وفي معمعان هذا الصراع مع الأقدار فإن الآلهة نفسها ربما تتغير فتبدل إرادتها ومسلكها.. بينما العقل العربي الذي نشأ في الفيافي والقفار وعند مفارق طرق التجارة الداخلية وفي الواحات التي تتطلع إلى استمطار الغيث من الغيوم العابرة ابتدع مفهوم التسليم والانتظار والقضاء والأقدار. وحينما لاحت فرصة تاريخية لظهور حضارة عربية قوية كان وعاء هذه الحضارة يتخذ شكل الدولة المستبدة التي عطلت أي تعددية ممكنة... والعقل الغربي حينما انتهى من الصراع مع الآلهة انتقل إلى الصراع مع الطبيعة فحصل التقدم بينما العقل العربي حينما أقر بوحدانية الحاكم وأحادية السلطة وبالمرجعية الواحدة للتشريع انتقل إلى الصراع مع البشر فحصل التخلف...".
ويرى في مجال آخر أن "الدولة الدينية التي تنهمك التيارات الأصولية والسلفية في الترويج لها سياسيا وتسويغها فكريا إنما هي دولة لا ديمقراطية بل دولة استبداد بالتأكيد...".
وفي مكان آخر رفض ما يوصف عادة بالتوفيق بن العلم والدين فقال إنه "من الحيوي جدا عدم الانحناء بتاتا أمام التسويات الفكرية بين العلم والدين لأن من المحال أن يلتقي العلم مع الدين في الكثير من المسائل... إن العلمانية هي الرد على السلفيات والأصوليات بصنوفها المتعددة وأشكالها المختلفة وهذا الرد هو في جميع الأحوال شوط واحد من المواجهة الحضارية المتعددة الوجوه...".
وفي مجال آخر يتحدث عن نظام الشورى ويخلص إلى القول "لا تصلح الشورى لهذا العصر أبدا ولا تستطيع أن تصلح حال الناس فيه. والشورى لا تلتقي الديمقراطية حتى في منتصف الطريق خلافا لمن يجهد في إلباس الأولى لبوس الثانية...". ويحمل على الطريقة التي تعامل بها المرأة باسم الدين فيقول "أنا لا أعرف حقا لماذا ينظر شيوخ الحسبة إلى المرأة كرجس يحب اجتنابه...".
ويقول موردا أمثلة موثقة من الواقع عما يشير إليه "إنها لمعضلة ثقافية حقا وتربوية أيضا إلا تنتفض نساؤنا في القرن الواحد والعشرين حينما يهددها جاهل جهول ببتر حلمتها إذا تبرجت وأن ترضى بأن يعلمها واحد من إياهم أن عليها تلبية رغبة زوجها فورا حتى ولو احترق الطعام في الفرن وأنها لن تدخل الجنة أبدا إذا ماتت وزوجها غاضب منها. أي درك وصلت إليه الثقافة اليومية حينما يدور الكلام على أن مصافحة الرجل للمرأة حرام!" وأن يقول أحد المشايخ "إن تغيير المرأة ملابسها في غير بيت زوجها - كالمتجر مثلا - حرام".