شركات نجحت وأخرى فشلت في اختراق السوق الأمريكية
ظلت الولايات المتحدة محط أنظار عدد كبير من الشركات العالمية الكبرى والرائدة كونها أغنى دولة في العالم من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنها سوق يضم 300 مليون مستهلك يتمتعون بقدرات شرائية تفوق المعدل العالمي.وتنتج الولايات المتحدة ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما يزيد معدل الإنفاق الاستهلاكي فيها على ثمانية آلاف مليار دولار سنوياً.
وأمام كل هذه الحقائق، فإنه ليس بالأمر المستغرب أن تكون الولايات المتحدة مغرية لجذب عدد كبير من الشركات.
ومع ذلك، فإن السوق الأمريكية كانت بمثابة الوردة التي لم تخل من الأشواك بالنسبة إلى عدد من الشركات فالسوق في الولايات المتحدة شديدة التنافس وكثيفة النشاط إضافة إلى نضجها الكبير. وهي كذلك مجزأة للغاية عرقياً، وكذلك اجتماعيا واقتصادياً. كما أن سكانها منتشرون بصورة واسعة. وهنالك فروق كبيرة بين الشاطئ الشرقي والغربي من البلاد. ويتصف هذا البلد بتشريعات متشددة، وبأحزاب متخاصمة، وبسياسات متهورة تتعلق بمنح تأشيرات الدخول وبأنظمة مصرفية وضريبية معقدة.
ولذلك فإن أول تساؤل يواجه الشركات هو ما إذا كانت الولايات المتحدة هي الوجهة الصحيحة للاستثمار. ويجادل ألان روجمان، أستاذ النشاطات العملية الدولية في جامعة أنديانا، بأن معظم الشركات الدولية، إنما هي مراكز قوى إقليمية، بمعنى أنها تقوم بمعظم نشاطاتها العملية في الأقاليم الخاصة بها. ويضيف " بإمكانك أن تكون شركة دولية ناجحة من خلال النجاح الكبير في موقعك الإقليمي. وكثيراً ما تتخطى تكاليف التوسع الدولي على المكاسب المتحققة من ذلك".
وبكلمات أخرى، فإن أمريكا لا تصلح للجميع. ويجادل روجمان كذلك بأن هنالك قطاعين في أمريكا يمكن أن يكونا الأفضل فرصة من حيث نجاح الشركات القادمة، وهما قطاع الصناعات الدوائية، والخدمات المالية. وبالنسبة إلى الخدمات المالية بالذات، فإن لندن يمكن أن تنافس نيويورك كعاصمة للمال. غير أن الولايات المتحدة تظل بيت المال بالنسبة للاقتصاد العالمي. ويعتبر الاستثمار في الوقت والجهد من جانب الشركات التي تود القدوم إلى السوق الأمريكية، عاملاً أساسياً لتحقيق النجاح. ويرى بروس ماكيرن، كبير المحاضرين في شؤون النشاطات العملية الدولية في جامعة ستانفورد، أن على الشركات أن تركز على نقاط قوتها الرئيسة، وكيف تستطيع تسويق منتجاتها وخدماتها، وكيف يتلاءم كل ذلك مع السوق الأمريكية. ويقول " حين تعمل في سوق بالغة النضوج، كالسوق الأمريكية، فإن معدلات النمو التي تحققها تقل كثيراً عن تلك المتحققة في الصين. وينبغي عليك ألا تتوقع مكاناً واسعاً في السوق، وحين تجد بقعة ضيقة، فإن عليك أن تحارب من أجلها".
ومن الأمثلة البارزة في ذلك شركة هاير الصينية للصناعات الإلكترونية التي أنشئت عام 1984، حيث تنتج طيفاً واسعاً من الأجهزة الإلكترونية يمتد من الثلاجات إلى شاشات البلازما، وكذلك وحدات التكييف. وتقود هذه الشركة هذه الصناعة في الصين، كما تحتل الموقع الخامس على مستوى العالم، حيث تبيع منتجاتها في أكثر من 100 دولة. وبدأت التصدير للولايات المتحدة في منتصف التسعينيات، إلا أنها قررت إنشاء مصانع لها على الأراضي الأمريكية عام 1999 لتنتج منتجات تناسب الأذواق الأمريكية. وأنشأت الشركة مصنعاً في ولاية كارولينا الجنوبية، ومركزاً للتصميم في بوسطن، ومقراً رئيساً لها في نيويورك.
واعتمدت هذه الشركة استراتيجية التكاليف المتدنية، والسعر المخفض، في السوق الأمريكية، واستفادت كثيراً من رخص الأيدي العاملة في الصين، والتدني النسبي لأسعار الشحن البحري، حيث خاطبت بذلك الشرائح الحساسة للسعر في المجتمع الأمريكي، و استطاعت ترويج أعداد كبيرة من مكيفات الهواء، والثلاجات صغيرة الحجم، إذ أنها تسيطر الآن على 26 في المائة من سوق الثلاجات الصغيرة في الولايات المتحدة، تلك الثلاجات المستخدمة في مراكز سكن الطلبة، وكذلك في غرف الفنادق.
وبدأت هذه الشركة الصينية العمل مبكراً مع تجار التجزئة في الولايات المتحدة، حيث ضمنت بذلك صفقات توزيع ناجحة مع وول مارت، وهوم ديبوت، وبست باي. ويقول مايكل سكافر، المحلل في شركة يورومونيتور، إن تلك العلاقات كانت ذات أهمية كبرى لتلك الشركة الصينية، ولم تكتف منتجات الشركة بحجز المساحات اللازمة على الرفوف، بل إنها منحت الشركة الصانعة المصداقية المطلوبة في الأسواق الأمريكية. ويقول هذا المحلل إن هذا الأسلوب مكن الشركة من الإبداع في صناعة متطلبات الجانب الأقل دخلاً من شرائح المستهلكين، حيث قدمت منتجات فولاذ لا يصدأ رفيعة الجودة، كما طورت العديد من المنتجات الجديدة مثل مبردات المشروبات، إذ إنها تحتل في الوقت الراهن 50 في المائة من هذه السوق.
وتأمل الشركة الآن التوجه نحو الشرائح الأغنى من المستهلكين . غير أن المشكلة في ذلك هي أن المنافسة تتعلق بالجودة، وليس بالأسعار. واعتادت هذه الشركة البيع بأسعار رخيصة، حيث إنها تبيع فرن المايكروويف بـ 40 دولاراً. وسوف تحتاج إلى اعتراف برقي علاماتها التجارية حتى تستطيع بيع ثلاجة بـ 2.000 دولار. ولذلك أنشأت مركز التصميم الخاص بها في الولايات المتحدة. ويرى روجمان أن من الضروري وضع التصميم في سوق غنية وتنفيذه إذا ما أريد لمثل هذه المنتجات مرتفعة الثمن أن تحقق المزيد من المبيعات. وإن آخر شيء يمكن أن تتوقعه هو أن ترى تلك المنتجات مشابهة للغسالات الصينية رخيصة الثمن. وقال زهانج رويمن، رئيس مجلس إدارة شركة هارير، في مقال نشر في عدد تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي من "مجلة الشرق الأقصى الاقتصادية" إن الشركات الصينية تصارع دولياً، وإنها تواجه ضغوطاً شديدة لإيجاد ثقافة الإبداع. ويمكن وصف الوضع بأنه نجاح على الصعيد الوطني، وإخفاق في الساحة الدولية".
إن قضية العلامات التجارية تمثل مصادر قلق خطيرة للشركات الصينية. ويقول جوزيف بلومنفيلد، مؤسس شركة تريدوند الاستشارية التي تعمل على مساعدة الشركات الأجنبية على اختراق الأسواق الأمريكية، إن معظم الشركات الصينية تضع علامة موحدة هي "صنع في الصين". ويشير ذلك في العادة إلى ضعف الجودة. غير أنه يقول إن الشركات اليابانية والكورية كانت لديها هذه الكبرياء حين دخلت الأسواق الأمريكية للمرة الأولى. وتتفوق سامسونج، وإل جي، الآن على ويرلبول، وموتورولا في السوق الأمريكية، كما أن هوندا و تويوتا تتفوقان على منافستاهما الأمريكية.
ومن الشركات الأجنبية التي عانت مشكلة العلامة التجارية، شركة جروبابومبو المكسيكية لصناعة الخبز التي كانت منتجاتها رائجة تماما في الدول اللاتينية لأكثر من 60 عاماً. وقررت الشركة في الثمانينيات أن تبدأ طرح منتجاتها في الولايات المتحدة مستهدفة 30 مليون شخص من أصول إسبانية. إلا أن منتجاتها لم تلق إقبالاً سوى من الأسر المكسيكية. وأدركت الشركة ذلك، فاشترت في عام 1998 شركة بيردز التي تعتبر إحدى أهم سلاسل المخابز الأمريكية وكما اشترت شركة إنتنمانز وتوماس. وقدمت الشركة منتجاتها تحت اسم جديد، حيث كانت قرارات الشراء تلك بمثابة إكسير النجاح لتلك الشركة.
وتعتبر استراتيجيات الاستحواذ والشراء مناسبة للغاية لاختراق الأسواق الجديدة بصفة عامة والأمريكية بصفة خاصة حيث يمكن بواسطتها تسريع قدرة الشركة على الوصول إلى أعداد كبرى من المستهلكين. ويمكن لمثل هذه العمليات كذلك أن تمنح الشركة المشتركة فرصة كبرى للحصول على معلومات قيمة عن الأسواق الجديدة. واشترت شركة لينو?و الصينية النشاط العملي الخاص بالكمبيوترات الشخصية، في شركة أي بي إم، كما أن الدافع الرئيسي وراء شراء هاير الصينية لشركة مايتاج، كان التعلم منها في التعامل مع الأسواق الجديدة.
وتمنح عمليات الشراء منتجات الشركة المشترية فرصة للتطور لملاءمة الأذواق السائدة في الأسواق الجديدة. ومن الأمثلة الناجحة على ذلك قيام شركة BBU بدخول سوق الأغذية بعلامات تجارية اشترتها، بحيث أصبحت المزود الرئيسي لمنتجات مشهورة في السوق الأمريكية. ولهذه الشركة الآن وجود فاعل في 27 ولاية أمريكية، وبالذات في المناطق التي تسكنها أعداد كبيرة من ذوي الأصول الإسبانية . وسمحت لها عملية الشراء الكبرى بالتوسع في الوسط الغربي، غير أن حصتها السوقية لا تزال قليلة في النصف الشرقي من البلاد. ويشير ذلك إلى أهمية العامل الجغرافي في التسويق . ويقول جيرالد جوردون، رئيس سلطة تطوير منطقة فيرفاكس، إن زبائنه يميلون إلى الاعتقاد أن السوق الأمريكية متجانسة تماما. والحقيقة هي أن الأمر مخالف لذلك بصورة كاملة،، حيث إن اختلاف الأسواق بين الولايات داخل الولايات المتحدة يفوق الاختلافات القائمة بين سوقي فرانكفورت ولندن، من جهة، وبين الأسواق الأمريكية من جهة أخرى.
وتميل الشركات الآسيوية إلى التوجه نحو الشاطئ الغربي، بينما تتجه الشركات الأوروبية في العادة إلى الشاطئ الشرقي، في حين تركز الشركات الأمريكية اللاتينية على المناطق ذات السكان من ذوي الأصول اللاتينية.
غير أن اختيار منطقة ما لتسويق المنتجات فيها يمكن أن يكون خياراً استراتيجياً، فنجد أن شركة تيسكو البريطانية لتجارة التجزئة، على سبيل المثال، قررت التوجه إلى الساحل الغربي، واستثمار ما يصل إلى 250 مليون جنيه إسترليني سنوياً. فلماذا اختارت الشاطئ الغربي خلافاً للتوجه الأوروبي؟.
الواقع أن نشاط مثل هذه الشركات مركز للغاية في الولايات المتحدة، حيث تستحوذ "وول مارت" مثلاً على 20 في المائة من السوق. غير أنها لا تمتلك حضوراً قوياًَ في كاليفورنيا مقارنة بحضورها البارز في الولايات الأخرى. ورأت شركة تيسكو في ذلك واقعاً يمكنها أن تستفيد منه تسويقياً في ظل وجود منافسة ضعيفة. وتتناسب استراتيجيات هذه الشركة مع أنماط التوزيع السائدة في الغرب الأمريكي.
وكانت الشركة البريطانية تفكر في ذلك منذ عدة سنوات، حيث تعلمت الكثير من خلال شراكات مع سيفواي في سان فرانسيسكو. ومن المتوقع أن تحتل هذه الشركة البريطانية موقعاً مميزاً في الأسواق الأمريكية. وقاومت كل من فرنسا وتايوان انتشار المنتجات التي تبيعها هذه الشركة البريطانية. وكان سبب المقاومة الفرنسية هو ضعف العلامات التجارية، في حين كان سبب الفشل في تايوان هو عدم امتلاك العقار المناسب.
ويقول خبراء إن الشركة البريطانية محظوظة من عدة جوانب أبرزها ما قامت به خلال الفترة الأخيرة من تعيين يتم ماسون كرئيس تنفيذي لعملياتها في الولايات المتحدة. ويتمتع هذا الرجل بكل مقومات النجاح، حيث سبق له أن تقلد عدة مناصب تنفيذية مهمة خلال فترة عمله مع الشركة البريطانية المستمرة منذ 25 عاماً. أما روجمان، فيبدي شكوكه، وهو يرى أن تجارة التجزئة نشاط محلي، وبالذات في الولايات المتحدة، حيث المنافسة شرسة للغاية.
ويرى محللون آخرون أن امتناع الشركة البريطانية عن بيع المحروقات ربما يكون خطأ، حيث إن الطلب شديد على المنتجات البترولية في مختلف محطات التوزيع الأمريكية. وهنالك كذلك بعض المخاوف من ألا تناسب استراتيجيات تيسكو توزيع السكان المشتت في الولايات المتحدة، مقارنة بالتركيز السكاني العالي في بريطانيا.
وربما يكون الأمر المشترك بين كل هذه الشركات هو أنها فصّلت طريقة عملها لكي تناسب الظروف الأمريكية. ويرى روجمان أن التوهم أن بإمكانك استخدام نموذج النشاط العملي ذاته في كل الأسواق، ربما يكون خطأ قاتلاً، وأن الأمر ليس مجرد محاولة تصميم المنتجات وفقاً للذوق الأمريكي. ولهذا السبب يرى أن السوق الأمريكية صعبة أمام شركات مثل تيسكو، وهاير.
ويقول بلومنفلد إن الشركات الآسيوية، وخصوصاً الصينية، تصارع مفهوم التسويق، وتخفق في فهم درجة تطور المستهلكين الأمريكيين. ويضرب مثلاً على ذلك في تقرير سلبي ظهر عن شركة صناعة سيارات صينية في إحدى المجلات الأمريكية. وحين سئل الرئيس التنفيذي عن سبب ذلك التقرير السلبي، قال إنه لم يطلب من المجلة إجراء ذلك التقييم. وتمتاز الأسواق الصينية بأنها أسواق للعموم، ولذلك تجد الشركات الصينية صعوبات في اختراق الأسواق التي تتطلب المنتجات غالية الثمن.
والحقيقة هي أن الأسواق الأمريكية تتطلب مواصفات عالية، إلا أنها في الوقت ذاته تمنح فرصاً عالية للنجاح. ويتفق معظم الخبراء على أنه إذا كان المنتج يتمتع بخصائص جيدة، فإن المستهلكين سوف يشترونه، بغض النظر عن بلد المنشأ.