اقتصاد شرق آسيا يتجاوز أزمة 1997 ويحقق 6.1% نموا سنويا
حققت دول شرق آسيا معدل نمو قدره 6،1 في المائة عام 2006، وقد تصدرت الصين هذه الدول من حيث معدل النمو حيث بلغ 10،7 في المائة وفيتنام 8،2 في المائة ثم تايوان 7 في المائة. وفي الوقت نفسه شهدت هذه الدول استقطابا واسعا للاستثمارات الأجنبية بلغت قيمتها 320 مليار دولار في 2006.
وكان البنك الدولي قد أصدر قبل عدة أيام تقريرا أكد فيه أنه لم تكد تمر عشر سنوات على الأزمة المالية التي عصفت بمنطقة شرق آسيا في 1997، إلا وانتصبت المنطقة واقفة على قدميها فازداد ثراؤها وقل فقراؤها، وباتت تلعب دوراً عالمياً أكبر من أي وقت مضى، وتحسنت مستويات دخل السكان تحسّناً ملحوظاً مقارنة بما كانت عليه الحال قبل وقوع تلك الأزمة، وشهدت بعض بلدانها ـ كالصين وفيتنام وكمبوديا وجمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية ـ تحقيق معدلات نمو استثنائية في مستويات الدخل. ونتيجة لذلك، استطاع أكثر من 100 مليون شخص في مختلف أصقاع شرق آسيا منذ عام 2000 الخلاص من براثن الفقر المدقع، ومازالت معدلات الفقر تواصل تقلصها.
ويقول التقرير إن الأزمة المالية للعامين 1998 و1999 أظهرت التكلفة العالية الناجمة عن سوء إدارة التقلبات التي قد يتعرض لها الاقتصاد. لذلك ركزت دول شرق آسيا على تنفيذ استراتيجيتين للتعامل مع مخاطر الأزمة. الاستراتيجية الأولى هي الحفاظ على فائض في الحساب الجاري وبناء احتياطيات أجنبية ضخمة.
وتؤكد المؤشرات أن مستويات هذه الاحتياطيات هي حالياً أكثر بكثير من المستويات المطلوبة عالمياً. أما الاستراتيجية الثانية فهي اتباع سياسات تهدف إلى تقوية أساسيات الاقتصاد وخاصة القطاع المالي، وقد تم تحقيق إنجازات كبيرة في هذا المجال خاصة فيما يتعلق بالبنوك حيث تمت زيادة ملاءتها المالية وتحسين نوعية الموجودات والأرباح وتنويع القطاع المالي من خلال تنمية أسواق الأسهم والسندات ووضع التشريعات الرقابية القوية ولكنها تتصف بالمرونة في الوقت نفسه.
ويقول التقرير إن هذه الدول عملت خلال السنوات الماضية على معالجة آثار الأزمة المالية وذلك من خلال التركيز على معالجة الجوانب التالية: إصلاح المناخ الاستثماري حيث قامت هذه الدول بتطوير تشريعات الاستثمار لجعلها أكثر تنافسية وأقل التكلفة. وتعميق أسواق رأس المال حيث تم السماح بتأسيس شركات مساهمة في عدد كبير من القطاعات كذلك تحسين شروط منح الائتمان وتعزيز ونظم ولوائح الشفافية. وتحرير التجارة في الخدمات مما أسهم تحسين معدلات الإنتاجية. كذلك تحسين نوعية البنية التحتية والخدمات المقترحة. والاهتمام بالتنمية البشرية من خلال وضع الاستراتيجيات المتوسطة الأجل لبناء المهارات المطلوبة عن طريق إصلاح برامج التربية والتعليم والجامعات المهنية والتركيز على جوانب الإبداع وبناء المعرفة ابتداءً من المراحل الأولى من الدراسة كذلك إدخال وسائل التكنولوجيا. وأخيرا اتباع سياسات " ماكرو" اقتصادية قوية تهدف إلى إضفاء مرونة أكبر للتكيف مع الأزمات الاقتصادية.
ومع ذلك يلاحظ تقرير البنك الدولي أن هذا النمو المدهش والخطوات الناجحة تحمل في طياتها في الوقت ذاته الموجة التالية من التحديات القاسية التي يمكن أن تؤدي إلى إبطاء معدلات النمو إذا لم يتم التعامل معها على نحو لائق.
ويتمثل أحد أهمّ تلك التحديات التي تواجه منطقة شرق آسيا فيما يُطلق عليه مجازاً اسم "شَرَك البلدان المتوسطة الدخل". ويوضح التاريخ أنه بينما نجح عديد من البلدان في الانتقال من مصاف البلدان المنخفضة الدخل إلى مصاف البلدان المتوسطة الدخل، فإن عدداً قليلاً نسبياً قد واصل تقدمه لينضم إلى شريحة البلدان المرتفعة الدخل. وعلى أي بلد يرغب في الانتقال إلى مصاف البلدان المرتفعة الدخل، أن يكون لديه اقتصاد يتخصص على نحو متميز في مجالات منتقاة بحيث يمكنه تحقيق وفورات الحجم والريادة التكنولوجية. إلا أن تحقيق ذلك صعب المنال عندما تجد البلدان نفسها محصورةً بين منافسين يتمتعون بانخفاض مستوى أجور الأيدي العاملة في البلدان الفقيرة، وشركات قوامها الابتكار والتقدم التكنولوجي في البلدان الغنية. ويتعين على تلك البلدان التصدي للكثير من التحديات المعقدة التي تراوح بين ضرورة الارتقاء بمهارات قوة العمل ومستواها الابتكاري، وإقامة أنظمة مالية متقدمة، والحفاظ على التماسك الاجتماعي، وتخفيض الفساد تخفيضاً ملموساً. وما لم تتمكن تلك البلدان من إحداث وتفعيل تغيّرات صارمة من هذا القبيل في سياساتها ومؤسساتها، فإنها لن تبرح مكانها وستظل غير قادرة على الخروج من شرنقة البلدان المتوسطة الدخل.
وتُظهر تجربة كل من اليابان وسنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية وهونج كونج (الصين)، وهي بالفعل من بلدان منطقة شرق آسيا، أن الانتقال إلى مستويات الدخل الأعلى هو أمر ممكن. ولكن هذه المهمة ليست بالمهمة السهلة. وتواجه الصين حالياً تحديات تتصل بكونها بلداً متوسط الدخل، ويتعلق الكثير منها بالضغوط البيئية. فعلى سبيل المثال، تضم الصين 20 من بين مدن العالم الأكثر تلوثاً البالغ عددها 30 مدينة، ويُعزى ذلك إلى حد كبير إلى ارتفاع استخدام الفحم لأغراض توليد الطاقة. كما أن التآكل الشديد في التربة والأمطار الحمضية وتلوث المجاري المائية تؤثر كذلك على حياة الملايين. ويهيمن قطاع الصناعات التحويلية، وليس قطاع الخدمات، على الاقتصاد الوطني، مما يؤدي إلى تفاقم الضغوط البيئية.
وفيما يتعلق بباقي بلدان هذه المنطقة، فإن التحديات التي تواجهها تختلف طبيعتها إلى حد ما من بلد لآخر. فتلك المنطقة تضم بين جنباتها العديد من البلدان المتوسطة والمرتفعة الدخل التي تشهد معدلات نمو تبلغ نحو 2 في المائة، وهو أقل مما كان عليه قبل وقوع الأزمة. وقد شاب الضعف الاستثمارات في تلك البلدان، كما أن نصيبها من التجارة العالمية يتعرض لضغوط في الوقت الذي تعمل فيه على التكيف مع الصعود السريع للصين. وبينما حقق صعود الصين مكاسب هائلة في مستوى الرفاهية لدى المستهلكين في جميع أنحاء العالم، فقد أدى إلى خلق ضغوط تنافسية شديدة لاقتصادات بلدان أخرى من شرق آسيا في الأسواق العالمية.
وتخلص استقصاءات مناخ الاستثمار التي يقوم بها البنك الدولي إلى أن الشركات العاملة في منطقة شرق آسيا تُقيّم "عدم اليقين" على أنه أحد أكبر العوائق التي تواجهها في عملياتها. وليس هناك ما يُثير الغرابة في ذلك في ضوء التحديات التنافسية العنيفة وإجراءات التصحيح الهيكلية التي تمر بها تلك البلدان، فالمنافسة العالمية باقية. والجهود الحالية لتقوية مناخ الاستثمار هي عامل أساسي في تهيئة بيئة تستطيع الشركات في ظلها السعي إلى استثمارات كفؤة ومجالات تتمتع فيها بميزة نسبية عالمية.
ومن بين القضايا الأخرى التي تواجهها البلدان المتوسطة الدخل ضمان تقاسم شعوبها المنافع الناشئة عن تراكم الثروات في هذه المنطقة على نحو يتسم بالعدل والإنصاف. فبينما تواصل معدلات الفقر تقلصها، فإن التفاوت الكبير في مستويات الدخل آخذ في الارتفاع، ويظهر ذلك بصورة صارخة في بعض الحالات. وتشير الأبحاث إلى أن العديد من القوى والعوامل المؤثرة التي تساهم حالياً في تحقيق النمو السريع وزيادة الاندماج الإقليمي والعالمي هي أيضاً القوى والعوامل نفسها التي تخلق تبايناً في معدلات النمو ومستويات الدخل. فعلى سبيل المثال، يلاحظ أن ازدياد وتيرة التغيّر التكنولوجي والعولمة يؤديان إلى ارتفاع الطلب على العمالة الماهرة، وزيادة أجور الأشخاص الذين يتمتعون بحظ أوفر من التعليم والمهارات.
ويذكر أن عددا من العوامل المتراكمة أدى إلى وقوع الأزمة المالية التي عصفت بمنطقة شرق آسيا عام 1997. فقد نشأ موطن الضعف الرئيسي نتيجة لارتفاع مديونية البنوك ومؤسسات الأعمال في تلك المنطقة بسبب حصولها على قروض كثيرة قصيرة الأجل من مصادر أجنبية بالعملة الصعبة. وقد وقع ذلك، جزئياً، في وقت كانت فيه أسعار الصرف مربوطة عملياً بالدولار الأمريكي لمدة طويلة، مما أدى إلى خلق شعور زائف بالأمان، وشجع ذلك على الاقتراض الخارجي، الأمر الذي أدى إلى زيادة التعرض لمخاطر الصرف الأجنبي في القطاع المالي وقطاع مؤسسات الأعمال. وما إن حل منتصف عام 1997، حتى بدأ مستثمرو القطاع الخاص، فجأة ودون سابق إنذار، في تحويل قسم كبير من أموالهم من خمسة من بلدان منطقة شرق آسيا، هي: تايلاند، كوريا، ماليزيا، الفلبين وإندونيسيا.
وفي واقع الأمر، جرى سحب أكثر من 100 مليار دولار أمريكي من هذه المنطقة في عامي 1997 و1998، بواقع نحو 5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لهذه المنطقة كل عام، مما أدى إلى حدوث كساد اقتصادي، وتخفيضات هائلة في قيمة العملات، وارتفاع معدلات التضخم بشدة، وانهيار أسواق المال في تلك البلدان الخمسة التي تمر بهذه الأزمة. وفي غضون ستة أشهر، ازداد عدد العاطلين عن العمل في إندونيسيا بنحو 800 ألف شخص على الأقل، وفي تايلاند بنحو 1.5 مليون، وفي كوريا بنحو 1.35 مليون. ومع انخفاض قيمة عملات تلك البلدان، انخفضت أجور القوى العاملة. حيث انخفضت القيمة الحقيقية للأجور بنحو 12.5 في المائة في كوريا بنهاية عام 1998، وبنحو 6 في المائة في تايلاند.
وبدأت دوامة الفقر ـ الذي كان قد انخفض في مختلف بلدان منطقة شرق آسيا إلى معدل غير مسبوق بلغ 9 في المائة سنوياً في السنوات الخمس التي سبقت وقوع هذه الأزمة ـ في الارتفاع بشدة ثانية. وشهد عام 1998 سقوط نحو 19 مليون إندونيسي و1.1 مليون تايلاندي في براثن الفقر. ولم ينتظم آلاف الأطفال في تايلاند والفلبين وإندونيسيا في المدارس في العام الدراسي الجديد في 1998 بعد أن فقد آباؤهم وظائفهم ومقدرتهم المالية على دفع الرسوم المدرسية.