هل تتحول المحاماة مهنة البحث عن العدالة إلى تجارة؟

هل تتحول المحاماة مهنة البحث عن العدالة إلى تجارة؟

يا لتلك الأيام التي كان فيها البحث عن العدالة هو الهدف الرئيسي لعمل المحامين والتي كان السعي للتربح المالي فيها غريبا إن لم يكن مثيرا للامتعاض. لقد جاء في تعليق على قانون المحاماة لعام 1920 ما يلي:
"إن المحاماة مهنة تعتبر أداة من أدوات تحقيق العدالة، ولهذا لا يجوز للمحامي أن يمتهن ذاته كطرف في نزاع قانوني ". ومن أجل ذلك لم يكن مسموحا أن يتفق المحامي مع موكله على دفع مكافأة له في حالة كسب القضية. وقد كان التعويض المالي المدفوع للمحامي على شكل نسبة مئوية من المبلغ المتنازع عليه موضع استهجان بشكل خاص ذلك لأن المكافأة هنا لم تكن تعتمد فقط على كسب القضية وإنما أيضا على ضخامة المبلغ موضوع القضية.وقد كانت حماية استقلال المحامي كما لا تزال إلى يومنا هذا المبرر المفضل لتحريم قبول المحامي أية مكافآت لقاء نجاحه في كسب قضية من القضايا.
غير أن هذا النص المتشدد الوارد في نظام المحاماة في ألمانيا قد أصبحت أيامه معدودة بموجب قرار أصدرته المحكمة الدستورية العليا, بعد أن أعطي المشرعون مهلة حتى 30 حزيران ( يونيو ) 2008 لإدخال استثناءات على هذا النظام أو إلغائه نهائيا. وسيكون لذلك القرار أهمية بالغة من حيث إنه يتعلق بموضوع التعامل بالأموال في العديد من مكاتب المحاماة. فحتى المحكمة العليا نفسها لا تستطيع إغلاق عينها عن مدى الأهمية التي اكتسبتها الاستراتيجيات المالية في إطار المنافسة العالمية المتزايدة ولهذا جاء قول قضاتها الحذر بأن : " التفكير التجاري ليس بالقطع متناقضا مع مهنة المحاماة." وربما كان الأقرب إلى الحقيقة الاعتراف بأن عملية تحول مهنة المحاماة إلى تجارة تسير على قدم وساق. وقد أصبحت هذه العملية تتخذ في هذه الأثناء أبعادا ينبغي على الكثيرين أن يعتادوا عليها. وبالتأكيد أن المحامين - بصفتهم ينتمون لمهنة حرة - يتحملون على الدوام المخاطر الاقتصادية المترتبة على الأنشطة التي يقومون بها. لقد كان من الطبيعي, في ظل ظروف تنظيم المهنة سابقا, أن تسود الأفكار المثالية فيما يتعلق بالشأن المالي في عمل المحامين. ولكن من خلال ضغوط المنافسة المتزايدة, وإلغاء العديد من الضوابط, طرأت في السنوات الماضية تغيرات كبيرة على صورة المهنة.
لقد كان الرواد في ذلك مكاتب المحاماة الكبيرة وهي في الأغلب ذات جذور أمريكية أو بريطانية ويعمل فيها عدة مئات من المحامين.ومن المعروف أنها تكسب أموالا طائلة من تمثيلها كبريات الشركات العالمية. ولا يكاد المرء يعثر على أي أثر لما يدل على أنها حقا مهن حرة لا في مكاتبها في حي البنوك في مدينة فرانكفورت ولا في وسط مدينة لندن. صحيح أنه ما من أحد من المحامين هنا يضع علنا موضع الشك المبادئ السامية للمحاماة مثل الالتزام بالكتمان والاستقلالية. ولكن الحقيقة أنهم هم أيضا – مثلهم في ذلك مثل موكليهم - يسعون إلى تحقيق الربح من وراء ما يقومون به من أعمال. ولعل الأنموذج الذي يحتذون به هو مكاتب المحاماة الأمريكية التي تتقدم على الجميع عالميا سواء في حجم أعمالها الذي قد يصل إلى ثلاثة ملايين يورو للشريك الواحد أو في مستوى ربحيتها.
وفي ألمانيا حاليا يثير أكبر مكاتب المحاماة ( فريش فيلدز بروكهاوس ديرينجر) حفيظة أكثر من 500 من المحامين العاملين لحسابه بسبب بعض من إجراءاته للتوفير في النفقات. أما الشركاء في مكاتب أخرى أقل ربحية فيجري تصنيفهم ضمن مرتبة أدنى أطلق عليها اسم " شركاء بحصص ثابتة ". ولهذا فإن أعداد من يديرون ظهورهم لأصحاب تلك المكاتب ليست قليلة. وقد تكون مكاتب فريش فيلدز عمليا هي النموذج الصارخ الأبرز ولكن هذه المؤسسة القانونية البريطانية هي بالتأكيد ليست الأولى بين مثيلاتها التي تراقب من كثب إسهامات العاملين لحسابها في عائدات المؤسسة وتستخلص النتائج الضرورية المترتبة على ذلك. وقد يأسف المرء لهذه الحالة, ولكن الواقع أنها ليست سوى نتيجة طبيعية للمنافسة الحادة التي طالت أيضا منذ سنوات، قطاع مكاتب المحاماة.
ونتيجة لمحاولات مكاتب المحاماة الكبرى لتعظيم أرباحها, فقد ضاقت أمام المكاتب الصغيرة والمحامين الفرادى فرص كسب عيشها والصمود في معترك المنافسة. وبالنسبة لما يقدر بنحو 140 ألف محام مرخص تشكل السنوات الأولى لعملهم في مكاتبهم الخاصة معاناة حقيقية, بل إنهم حتى في السنوات اللاحقة لا يستطيعون أن يكسبوا سوى جزء من الدخل الذي يحققه زملاؤهم العاملون المستجدون في مكاتب المحاماة الكبرى والذي قد يزيد في بعض الحالات على 100 ألف يورو. إن انتزاع قضية من القضايا المجزية قد أصبح بالنسبة للمحامين ترفا ما بعده ترف حيث يلجأ صغار المحامين لقبول القضايا - تحت ضغط الحاجة - لقبول قضايا بأسعار ضعيفة. ولهذا فإن من يعتقد أن المحامي لا يعتمد ماليا على أصحاب القضايا, إنما يغلق عينيه عن الواقع، فالمحامون أيضا مضطرون في نهاية المطاف أن يحققوا التوازن في شؤونهم المالية.
إن الرغبة في الاستقلالية بالنسبة لمهنة المحاماة تكمن وراءها الخشية من النصائح القانونية السيئة. وهذا يعني بالنسبة للمحامين مجازفة كبرى- تماما كما في حالة الأطباء -حيث يستدعي الأمر تحسين مستويات الأداء المهني. ومع ذلك فثمة ضوابط حالية مما يضع حدا للمحامي الذي يسعى بكل الطرق لكسب القضية لصالح موكله، ولصالحه نفسه بطبيعة الحال، وهي الضوابط التي يوفرها قانون ( عقوبات تضليل القضاء). ولكن هذا لا يحظر على أية حال تقاضي بدلات مادية في حالة كسب القضايا أمام المحاكم.
وبدلا من إنكار الضرورات المالية لهذا المجال من الأعمال, ينبغي على المحامين وعلى أصحاب القضايا في الوقت نفسه أن ينظروا لتقديم المشورة والرأي القانوني على أنها نوع من أنواع تقديم الخدمة, وبالتالي ألا يكون هناك ما يمنع من التحدث في والاتفاق على الناحية المالية. وكثيرا ما يحدث, حتى في هذه الأيام, ترتيب الأمور المالية بين الأطراف المعنية من تحت الطاولة. وهو ما قد يتسبب في حدوث منازعات عند استحقاق الدفعة الأولى.

الأكثر قراءة