شعر الزجل.. الفن الذي لا يتحزب إلا للشعب

شعر الزجل.. الفن الذي لا يتحزب إلا للشعب

اللي بيكون عندو مال بيموّن جموع
ليش حتى ينحرم ويموت جوع
آدم كسر ضلعو وعمل منّو مرا
لنّي محلو بكسر الأربع ضلوع!
هذا ما صاغه وجدان الشاعر اللبناني زين شعيب والمعروف بـ"أبو علي"، ولم يكن التداخل مع أبيات كتلك أمرا بالغ الصعوبة ليس لبساطة أسلوبها فقط، بل لأنها تنقل الواقع مجردا من الدلالات الرمزية والغموض، لتخرج لنا في قالب من الحميمية الاجتماعية الأقرب إلى أنشودة تتردد في أزقة و "زواريب" لبنان العتيقة.
هذا هو الزجل الذي عرفه التاريخ الأدبي في وطننا العربي عبر مسميات عدة، كالفن الفولكلوري الذي يؤاخي المجتمع والشعر، ويخلط قضاياهما على نحو عفوي ومحبب يكاد من بساطته أن يتحول إلى مثل شعبي، أو تعبير جميل عن هموم الناس، يبقى في ذاكرتهم ويرتبط بهم تاريخياً وجغرافياً كما لا تفعل القصائد الأخرى، على الرغم من أن استماعك إليه يكاد يوحي لك بأن شاعره كان يتمشى، ويتكلم، ويصنع قصيدته، في أثناء ذلك !!

ما يكتب بسهولة يدخل القلب بسهولة، وهذا ما تؤكده الفنون المحكية التي تستعير عبارات المجتمع اليومية في نظم أبيات ومقطوعات لا تخلو من جمالية أدبية، في محاولة لكتابة الواقع وترجمته ليس إلا، وربما لهذا السبب أصبح الشعر الزجلي هو الأكثر شعبية في لبنان، وذلك منذ بداياته في الثلاثينيات الميلادية مع الشعراء المؤسسين كشحرور الوادي ورشيد نخله ومع الجيل الثاني والثالث كأنيس الفغالي وزغلول الدامور وزين شعيب ومحمد المصطفى وجان رعد وموسى زغيب وأسعد سعيد وغيرهم.
وقد أثبت الزجل أنه قادر على أن يتحول إلى لغة تعبر عن صوت الناس عبر عقود من تداوله المجتمعي الحميم، وارتباطه الوثيق بحياتهم ومواقفهم، حيث تجاوز مجرد التقديم المعتاد ضمن السياق الاحتفالي المحض.
ويمكننا تطبيق ذلك على لبنان بشكل أكثر وضوحا من النماذج العربية المشابهة، فقد وصل إلى مرحلة من الشعبية التي جعلته يفرض نفسه بقوة في المحافل الثقافية والمناسبات الوطنية والاجتماعية، ولم تؤثر طبيعته العفوية البسيطة على اعتباره عملا أدبيا يحتفي به وتقام له الندوات والأمسيات على مستوى راق من الحضور النخبوي المثقف، وهذا ما جعله أكثر اقتراباً من المشهد الأدبي اللبناني وأكثر تحرراً من التقييد النمطي ضمن الفولكلور التراثي المجرد من روح الحياة، فالأدب يتطور بتطور الحياة، والمجتمع هو ذاته الذي يعبر عنه الزجل في كل وقت وحين.
أما شاعر الأبيات التي بدأنا بها هذه السطور فقد بقي محتفظاً بإخلاصه لهذا الفن الذي تحول مع الوقت من هواية إلى هوية عرفه الناس بها، وعادوا إليه يلقون عليه قصائده التي نسيها بشكل يؤكد ارتباط الزجل بقلوب الناس وامتلاكه لذوائقهم بشكل سحري عصي على الزمن أو النسيان، يقول أبو علي: "يمكنك أن تسأل أيا كان في أي مكان من لبنان وستجد أنه يحفظ أبياتا وقصائد كاملة لهذا الشاعر أو ذاك، نحن غنينا للناس والناس هم الذين يقدروننا ويعطوننا حقنا ويحفظون ذكرنا وذكرانا، فالزجل يصبح ملك الناس وهم الذين يمنحونه المكانة التي يستحقها"، ويرى أبو علي أن الزجل فن يشمل كل هموم المجتمع والبلد ولا يسير باتجاهات محددة، معتبرا أن الشاعر الحقيقي لا يدع قضية من القضايا لا يتطرق إليها مؤكدا كذلك حيادية هذا الفن ووصفه بأنه "لا يتحزب إلى أحد سوى الشعب".
يقول زين شعيب أن قصائده تناولت أغراضاً عدة بين الفرح والحزن وغيره ويضيف: "الشاعر ابن هذه الأرض والبيئة وينبغي أن يشعر الجمهور أنه يترجم أحاسيسهم في كل الأحوال لأن كل الناس لديها مشكلات وليس كل وقتها مسرات، لكننا أيضاً نخفف من هموم الناس بالشعر، وليس بالضرورة أن يبكي الجمهور فلديه من المشكلات ما يكفيه!"
يمكننا التوقف كثيرا عند الزجل بوصفه قيمة أدبية، أو شخصية اجتماعية لها احترامها، يجذبك لونه الخاص وسهولته الممتنعة التي تجعلك أمام معادلة إبداعية طرفاها سهولة دون ابتذال وجمال دون غموض، والذي يميز هذا الفن هو اعتماده بالدرجة الأولى على شعراء مطبوعين وقائمين على أرضية من الموهبة الثرية التي تجعلهم قادرين على خوض مباريات طويلة من الشعر المرتجل بحيث تحضر البديهة الأدبية وسرعة التعامل الذهني مع تلك الجولات التي تمتع الحضور بلقطات شعرية طازجة يتبادلها شاعران محاطان بصفوف من الهتاف والتصفيق والإيقاعات الشعبية المحببة، وهكذا دون إعداد مسبق تخرج نصوص على قدر من الإبداع بحيث يخلدها التاريخ وتبقى في ألسن الناس وذاكرتهم حتى بعد مرور السنين.
وتبقى الأسئلة كثيرة حول هذا الفن العريق الذي يتجاوز عمر قوافيه وأوزانه أكثر من 900 عام، وإمكانية أن يتم تطويره وفق أساليب جديدة يمكن أن تخرج منه بأنماط إبداعية مختلفة، دون إغفال الجانب المهم الذي يصر عليه عدد من شعراء الزجل وهو كونه نمطا أدبيا متوارثا لا ينبغي المساس به، باعتبار أنه استمر بتلك القيم نفسها حتى تخلد وأصبح محفوظا في ذاكرة الناس، ولذلك فهم يحافظون على أوزانه باعتباره أمانة ورثوها كما هي، وبالتالي فعليهم أن يسلموها للأجيال كما هي ،
وإن كان بعضهم قد طور قليلاً من الناحية البنائية لبعض القصائد ، كما أن شعراء النظم الذين يكتبون القصيدة المحكية الحديثة استمدوا الكثير من الزجل و عملوا على إضفاء روح جديدة عليه وتطوير أشكاله ومضامينه.
وهكذا هو الزجل كما نود أن نقرأه بشكل مستمر، ذلك الفن الذي يجمع قيم الرجولة و العزة مع لمسات من الدعابة المحببة، هو تلك الأناشيد الرشيقة ذات القوام الشعري المتناسق والأوزان الراقصة التي تصطف جنباً إلى جنب لتشكل جوقة موسيقية أو لتكون صفا متلاحما في مسيرة وطنية أو حتى لتؤدي "دبكة" تملأ المجتمع طرباً وتهز مشاعره سعادة في لحظة استراحة من هموم الحياة.

الأكثر قراءة