فيم يستثمر السعوديون؟
الإحصاءات لغة مفهومة ومحايدة، وهي تظهر أن 56 في المائة من أموال السعوديين في الصناديق الاستثمارية في بنوكنا مستثمرة في محافظ عالية المخاطر كمحافظ الأسهم المحلية والأجنبية!! وكثير من الناس ينظرون لاحتمال تحقيق العوائد العالية لكنهم لا يقيمون بالا لمخاطر هذا النوع من الاستثمار. يبدو أن نسبة كبرى منا أخذتهم سكرة العوائد العالية في سوق الأسهم في السنوات التي سبقت انهيار 25 شباط (فبراير) 2006 الفاجع، وغدوا لا يوزعون استثماراتهم على بدائل متنوعة ذات مخاطر متعددة، بل تدافعوا يضعون جُل مدخراتهم في استثمارات عالية المخاطر أملا في العوائد المرتفعة.
عندما بدأت ظاهرة ارتفاع أسعار الأسهم قبل ثلاث سنوات، كتبت موضحا ومحذرا أنه إن كان لا بد للناس من الدخول في هذه السوق، فإن عليهم أن يراعوا القواعد التالية:
أولا: ألا يضعوا البيض كله في سلة واحدة، فعليهم تنويع استثماراتهم بين الأسهم وغيرها من الأصول، حتى وإن كانت راكدة مؤقتا، ومهما بدا إغراء الاستثمار في الأسهم جذابا. كما أن عليهم توزيع أموالهم داخل محافظ الأسهم بين أسهم الشركات القوية ماليا وأسهم شركات المضاربة مع الاحتفاظ دوما بثلث المحفظة في شكل نقدي للمناورة أثناء المضاربة.
ثانيا: أن يستثمروا فقط فوائض أموالهم التي لا يعتمدون عليها في إشباع حاجاتهم الأصلية والضرورية بل وحتى التحسينية، أما أموالهم المخصصة لأغراضهم الكمالية فلأمر يعود لتقديرهم.
ثالثا: أن يمتنعوا تماما عن اقتراض المال لغرض المضاربة في سوق الأسهم لشدة خطورة هذا المسلك.
رابعا: أن يعرفوا كيف يتصرفون في هذه السوق، فالتصرف العشوائي يضاعف درجة الخطر الذي يتحملونه. لكن للأسف أظهرت الإحصاءات أن ما بين 90 و95 في المائة من الناس كانوا يضاربون في السوق بأنفسهم، وكثير منهم ليس لديهم المعرفة الكافية بقواعد العمل الفني في هذه الأسواق، فهم يساقون ويتأثرون بغيرهم وبالشائعات.
اللوم يقع جزئيا على الناس، إنما جزء كبير من مسؤولية ما جرى في اقتصادنا من تخريب عنيف لشكل توزيع الثروات والدخول كنتيجة لانهيار سوق الأسهم، يقع في الدرجة الأولى على عاتق السلطات الاقتصادية المسؤولة دائما عن توجيه دفة النشاط الاقتصادي. فالأمور لم تحدث بين عشية وضحاها بل تطورت متدرجة خلال فترة كافية من الزمن (نحو ثلاث سنوات) تحت سمع هذه السلطات وبصرها، التي كان بإمكانها ملاحظة اتجاه المدخرات وإعادة توجيه الفوائض نحو أنشطة اقتصادية أكثر فائدة للاقتصاد وللأفراد.
إن توجيه النشاط الاقتصادي لا يتم من خلال أساليب إنشائية وعاطفية ووطنية أو عن طريق الحديث فقط عما يجب أن يكون، بل من خلال قنوات وأدوات موضوعية يعرفها صنّاع السياسة الاقتصادية، وأهمها استخدام أسلوب الحوافز. إن ما يحرك المال هو المصلحة الشخصية، هذه هي حقيقة دوافع النفس البشرية. لذا كان علينا أن نمهد الطريق بسياسات اقتصادية وإدارية وقانونية مناسبة تدفع الناس لتحقيق مصالحهم من خلال تبني أنشطة اقتصادية حقيقية تعمل على توسيع القاعدة الإنتاجية في اقتصادنا في المجالات التي تشتد حاجة الناس إليها وتضيف في الوقت نفسه قيما حقيقية للناتج القومي، كمجالات الإسكان والتعليم والصحة والبنى التحتية والخدمات البلدية والصناعة ونحوها.
أما البنوك، فإن مسؤوليتها عن هذا القصور والخلل في إدارة وتوجيه الفوائض المالية، لا تقل فداحة. تتضح معالم هذا القصور إذا تمعنا في كيفية استثمار البنوك للأموال التي جمعتها من الناس وضختها في صناديق الاستثمار. فحتى نهاية 2005 كان نحو 65 في المائة من أموال هذه الصناديق مستثمرا في أسهم محلية، ونحو 23 في المائة منها مستثمرا في مرابحات وودائع، في حين استثمرت هذه الصناديق نحو 11 في المائة تقريبا من جملة أموالها في أسهم دولية. وجميعها ـ كما ترى ـ استثمارات ذات مخاطر عالية فيما عدا الصندوق الثاني. أما المتبقي وهو أقل من 2 في المائة من جملة هذه الأموال، فهو مستغل في صناديق أقل مخاطرة كالصناديق العقارية، وصناديق رأس المال المضمونة، والصناديق المتوازنة.
أما إذا نظرنا إلى نسبة أصول هذه الصناديق إلى جملة الودائع الجارية في البنوك فإنها لا تتعدى 34 في المائة، وهي نسبة منخفضة جدا بالمعيار الدولي. فنحو 66 في المائة من الودائع الجارية لم تبذل البنوك جهدا في تشجيع أصحابها على استثمارها في أية صورة من صور الاستثمار المفيد. والسبب واضح، فهناك تضارب بين مصالح العملاء والبنوك! فمن مصلحة البنوك أن تستغل هذه الودائع لذاتها بدلا من تقاسمها مع عملائها. إن تضارب المصالح حقيقة في الحياة، لكن يفترض أن تكون هناك جهات إشرافية تراقب الوضع وتوجهه لما فيه الصالح العام.
الأدهى من هذا أن القائمين على إدارة هذه الصناديق لم يراعوا الأمانة ويقوموا بالجهد المفترض في الموازنة بين عوائد هذه الاستثمارات ومخاطرها، بل إنهم ضللوا الناس عندما قاموا بتسويق هذه الصناديق عند مستويات مخاطر مرتفعة جدا، وقت أن بلغ مكرر الربحية نحو (44 مرة).
هذا هو حال بنوكنا: 56 في المائة من إجمالي أصول الصناديق مستثمرة في أسهم عالية المخاطر، ونحو 40 في المائة من أصول الصناديق مستثمرة في صناديق نقد تمول صفقات سلع دولية تستفيد منها الشركات الأجنبية. بينما جزء كبير من السيولة لم تعمل البنوك على جذبه نحو دائرة النشاط الاستثماري.
أمر عجيب! اقتصاد زاخر بالأموال والفرص الواعدة، وأعين شاخصة تنتظر فرص عمل وتترقب مزيدا من خدمات التعليم والصحة الراكدة، فيما يظل اقتصادنا يسير ببطء تحت مظلة سياسات اقتصادية شديدة التحفظ. أشرعوا الأبواب وافتحوا النوافذ قبل أن ينفد باقي الهواء!!