الاتحاد الأوروبي عرضة للانحراف ووظيفته حارس لاتفاقيات روما

الاتحاد الأوروبي عرضة للانحراف ووظيفته حارس لاتفاقيات روما

في عام 1946 ومن على شرفة بيت الطوائف المهنية في مايسن في سويسرا دعا وينستون تشيرتشل وزير الحرب البريطاني لإنشاء شكل من أشكال " الولايات الأوروبية المتحدة ". وفي عام 1951 بادرت فرنسا وألمانيا الغربية، إيطاليا، بلجيكا، هولندا ولوكسمبورج في باريس بتأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب. وكان هذا الائتلاف الاقتصادي يخفي وراءه هدفا سياسيا هو تعميم السيطرة على الصناعات الاقتصادية الحربية. وقد كان هذا هو الجذر الذي نبت منه الاتحاد الأوروبي الذي يعبر عن الإرادة في الوحدة والتطلع إلى الحرية والسلام بعد حربين عالميتين مدمرتين.
في عام 1957 وقعت المجموعة الأوروبية للفحم والصلب في روما اتفاقيات إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية . وقد كانت اتفاقيات روما أيضا تستهدف ، إلى جانب الأهداف الاقتصادية ، هدفا سياسيا هو الحد من إغراءات القوة . وتولت ألمانيا مسؤولية السوق المشتركة. وقد تم في هذه الأثناء إنجاز ما كان يطمح إليه من حرية انتقال السلع والخدمات ورأس المال والعمل عبر الحدود. بينما تولى الفرنسيون مسؤولية السياسة الزراعية المدعومة وسلطة الطاقة النووية المعروفة باسم يوراتوم Euratom.
وفي عام 2007، وفي هذه الأيام، أي بعد 50 سنة، اختفى في هذه الأثناء الستار الحديدي، وتوحدت في إطار الاتحاد الأوروبي 27 دولة يقطنها نصف مليار إنسان تقريبا في أجواء من الحرية والسلام. وهذا في ذاته يشكل سببا مشروعا للاحتفال بأوروبا الجديدة. غير أن الفرحة التي عبر عنها أهل روما في هذه الذكرى، لا يكاد المرء يرى لها أثرا في برلين. إن النخب السياسية في أوروبا تحتفل لوحدها بالمناسبة - بينما أصبح الناس بعيدين نسبيا عن أوروبا، وهذا ليس في ألمانيا فقط. فقبل سنتين رفض المواطنون في البلدين المؤسسين: فرنسا وهولندا ما يسمى اتفاقية دستور الاتحاد الأوروبي. ولم يتمكن الاتحاد الأوروبي من أن يستفيق من هذه الصدمة حتى الآن.
وفي الوقت الذي ما زالت فيه الجماعة الأوروبية حتى الآن محط اهتمام العالم الخارجي، كما تبرهن على ذلك رغبات الانضمام، تزداد الشكوك داخل الاتحاد. إذ إن أعدادا متزايدة من المواطنين لم يعودوا يرون في أوروبا ضمانة للسلم والحرية، وإنما يعتبرون الرمز " بروكسل " بمثابة ثقب أسود لمركزية لا كوابح لها. ومما لا شك فيه أن لهذا الانطباع ما يبرره، ذلك لأن أكثر من ثلاثة أرباع الإجراءات القانونية التي تتعلق بألمانيا يجري حاليا البت فيها في بروكسل وليس في برلين. فمثلا لم يعرف أعضاء البرلمان الألماني الخطوط العريضة لقانون مناهضة التمييز إلا عندما اضطروا للموافقة على القانون العام للمساواة. كما أن في أكثر من ثلاثة أرباع الأنظمة يقرر فقط موظفون أوروبيون في بروكسل، ولا يبقى لمجلس وزراء الدولة المعنية سوى القليل الذي يتخذ قراراته بشأنه. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن حجم مجموع الاتفاقيات، والخطوط العامة والقرارات المشتركة يقدر، في هذه الأثناء، بنحو 85 ألف صفحة. إن هذا التطور، مدعوم بحالة من عدم الثقة في الاقتصاد المعولم، هو ما يبعث في النفوس شعورا غامضا بالرفض. كما أن السجالات الحادة حول الخطوط العامة للخدمات قد بينت أن المزيد من الحرية وليس المزيد من الفرص هو الذي يدعو للشعور بالتهديد.
هذا ومن المعروف أن السياسيين الأوروبيين ليسوا موحدين في ردود أفعالهم على كل ذلك. فالأعضاء المؤسسون تحت قيادة الفرنسيين يدعون إلى "نموذج اجتماعي أوروبي". ومن الواضح أن وراء نموذج الدولة الاجتماعية الأوروبية تكمن فكرة أنه من خلال تصدير هذه المعايير ذات التكلفة المرتفعة يمكن السيطرة على المنافسة غير المرغوب فيها، وهذا بالطبع ليس من مصلحة الأعضاء الجدد من أوروبا الشرقية، وكذلك ليس من مصلحة الدول الأنجلو ساكسونية. وفي الحقيقة إن الفضول يدفع على التساؤل عما إذا كان "إعلان برلين" الذي أعدته المستشارة أنجيلا ميركل سيتضمن إشارة من نوع ما "للنموذج الاجتماعي الأوروبي". من المعروف بالطبع أن الاتحاد الأوروبي كان دائما يحمل صفة المجموعة المتضامنة، أكثر من كونه منطقة تجارة حرة، وهو يسعى لتحقيق المساواة في المستويات المعيشية من خلال عمليات إعادة التوزيع. ومن أجل ذلك فإن أربعة أخماس الموازنة السنوية للاتحاد الأوروبي البالغة حاليا 127 مليار يورو يجرى استغلالها لدعم المزارعين والمشاريع المناطقية في أوروبا بأسرها. ولعل هذا أيضا من العوامل التي تجعل الاتحاد الأوروبي قوة جاذبة كاتحاد اجتماعي.
إن النجاحات الاقتصادية لأوروبا قائمة على السوق الداخلية. كما أن تطبيق أنظمة تسري على الجميع لضمان المنافسة الحرة هو أحد الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي. ومن خلال التنافس السلمي بين أنظمة اقتصادية واجتماعية متعددة ومتباينة تستمد أوروبا قوتها الاقتصادية والثقافية. أما من يعمل على الحد من هذا التنافس ومن يسعى، بدلا من التنافس، لوضع صيغة " نموذج اجتماعي لعموم أوروبا "، فإنه يعرض للخطر سلامة الاتحاد. كما أن السعي إلى التوصل إلى معايير موحدة للضرائب والسياسات الاجتماعية والبيئة وحماية المستهلك يخفي وراءه رغبة أوروبا القديمة في الحماية من المنافسين الجدد داخل السوق المحلية وخارجها.
إن الاتحاد الأوروبي عرضة للانحراف إذا لم يتصرف كحارس لاتفاقيات روما وما ضمنته من حريات، وإنما يتصرف، بدلا من ذلك، وبصورة متزايدة، كمتدخل ومنظم. إن موجة التدخلات من قبل بروكسل تشكل تعديا على صلاحيات البرلمانات الوطنية، كما أنها تطمس مسؤولية الدولة القانونية. ولما لم يعد المواطنون قادرين على معرفة من وماذا يقرر لهم، أخذت أعداد متزايدة من الناس في الابتعاد داخليا عن الاتحاد الأوروبي. وهذا بلا شك هو مصدر الخطر الرئيس على أوروبا.

الأكثر قراءة