من أسوان: الروح تعود إلى فن النحت المصري القديم
حين بدأت أولى دورات سمبوزيوم أسوان الدولي لفن النحت في أقصى جنوب مصر كان محمود الدويحي في الخامسة عشرة ورأى كيف يتمكن النحاتون من تطويع حجر الجرانيت وإعادة تشكيله ليعيدوا مجد هذا الحجر وهذا الفن الذي ارتبط بمصر الفرعونية. وحين بلغ السمبوزيوم عامه الثاني عشر كان الدويحي (27 عاما) تحول
من عامل في أحد المحاجر إلى نحات يشارك عددا من أبرز النحاتين في العالم في
إنجاز عمل نحتي ضخم كما نال الأسبوع الماضي الجائزة الأولى في النحت من
صالون الشباب الثامن عشر في القاهرة.
واختتمت أمس الجمعة الدورة الثانية عشرة لسمبوزيوم أسوان الدولي لفن النحت والتي شارك فيها نحاتون من ست دول بما فيها مصر وهي اليوناني ديمتري سكالكوتوس والإيطاليان باسكال مارتيني وماريا كلاوديا فارينا والصربي فلادين مارتينفيتش والياباني تاكاشي كوندو والألماني فريتز باك.
كما شارك في الدورة التي بدأت أعمالها في نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي تسعة مصريين من أجيال مختلفة هم ساركيس طوسونيان وأكرم المجدوب وشمس القرنفلي وسعيد بدر وطارق زبادي ومحمد رضوان وهاني فيصل ومحيي الدين حسين والدويحي.
وتوضع تماثيل أنجزها بعض المشاركين منذ الدورة الأولى للسمبوزيوم عام 1996 في حدائق وميادين بعض المدن المصرية أما بقية الأعمال فوضعت في متحف مفتوح يجري استكمال بنائه في مدينة أسوان التي يقام بها السمبوزيوم سنويا وهي تقع على بعد نحو 900 كيلو متر جنوب القاهرة وتعرف بوفرة حجر الجرانيت الذي استخدمه المصريون في نحت المسلات والتماثيل في مصر القديمة.
ويقع المتحف المفتوح أو متحف الهواء الطلق على هضبة تطل على بحيرة نيلية في مسافة بين خزان أسوان والسد العالي.
ويقترح فنان الديكور عضو اللجنة العليا للسمبوزيوم صلاح مرعي ألا تقام مبان في المنطقة المحيطة بالمتحف إلا إذا كانت متسقة مع الطابع العام للمكان، مشيرا إلى وجود حلول فنية جمالية بسيطة كإقامة استراحات صغيرة بين كتلتين من الصخور.
وفي حفل ختام الدورة الثانية عشرة قس متحف النوبة في أسوان وصف وزير الثقافة فاروق حسني إنجاز السمبوزيوم بأنه "همس الحجر" الذي أصبح يجتذب نحاتين من معظم دول العالم للمشاركة ووضع بصمة فنية تجاور بصمات نحاتين آخرين في المتحف المفتوح وهو ما يعيد الاعتبار إلى فن النحت على الجرانيت الذي كان يمثل الذروة في الفن المصري القديم.
وبعد قطيعة استمرت أكثر من ألفي عام أعاد رائد النحت الحديث محمود مختار (1891 - 1934) تسليط الأضواء على هذا الفن بتماثيل أشهرها نهضة مصر.
أما المنسق العام للسمبوزيوم آدم حنين فقال في الاحتفال إن السمبوزيوم حقق هدفه وهو "الاجتراء على الحجر"، مشيرا إلى الاختلاف بين عمل النحات في مرسمه الخاص وفق معاييره الذاتية وعمله وبين مواجهته كتلة من
الحجر اختارها بنفسه لينفذ عليها فكرته في "الطبيعة البكر لأسوان مدينة المحاجر الأولى التي شكلت عناصر الحضارة المصرية من تماثيل ومسلات".
لكن السمبوزيوم لم يثمر تماثيل ومتحفا فقط وإنما كان شرارة نبهت فنانين فطريين إلى النحت الكامن داخلهم ومنهم محمود الدويحي الذي أنجز
هذا العام أحد أكبر التماثيل ضخامة وأطلق عليه اسم (امرأة) وهو عمل تعبيري يوحي بالشموخ في طول الجسد واستقامته ونظرته إلى الخيال الطليق.
قال الدويحي الذي لم يدرس النحت وهو ابن أحد عمال المحاجر "تربيت في المحجر". وأضاف أن له علاقة بحجر الجرانيت ولهذا اختار أطول قطعة متاحة ليصنع منها خلال أربعين يوما تمثاله البالغ 350 سنتيمترا بعد أربع سنوات من محاولات تطويع الحجر وإعادة تشكيليه.
ويعتبر تمثاله الجديد (امرأة) بدايته الحقيقية رغم حصوله عام 2005 على جائزة صالون الشباب ومشاركته العام الماضي في ورشة للأعمال الصغيرة بالسمبوزيوم.
ولم يعد الجرانيت مجرد حجر يحاكي الطبيعة أو البشر بل يمكن به التعبير عن أفكار فلسفية مجردة كالحياة والموت.
فالنحات الألماني فريتز باك أنجز عملا لافتا للنظر اختار له عنوان (مركب يحلق في الأفق) من قطعتين.. الأولى عبارة عن مكعب من الجرانيت الوردي تميل زواياه في ليونة وتحمل أسطحه خطوطا متعرجة تبدأ بلمسة خفيفة ثم تزداد عمقها تدريجيا لتصبح أقرب إلى ثقب به مياه في إشارة إلى الاستمرار والتواصل والحفر والارتحال.
والارتحال هو موضوع القطعة الثانية وهي كتلة ضخمة من الجرانيت الأسود يحمل سطحها خطوطا متوازية تشبه الأمواج وفي قمتها مثلث محفور فيه مياه تعلوها جمجمة كأنه مركب خوفو بجوار الهرم الأكبر في مصر الشهير بمركب الشمس الذي كان قدماء المصريين يعتقدون أن روح المتوفى تنتقل فيه إلى العالم الآخر. عمل النحات الألماني وإن مال إلى التجريد فهو حالة من التأمل وتلخيص رحلة الإنسان وانتقاله من حياة إلى أخرى.