الإحباط والخوف من الفشل يسودان بيئة العمل في لندن

الإحباط والخوف من الفشل يسودان بيئة العمل في لندن

إذا نظرت إلى غالبية العاملين في المراكز المالية في مدينة لندن قد تتخيل أنهم فرحون ومسرورون. لكنهم في داخل أنفسهم يعانون من أعباء الإجهاد والعمل الإضافي ونقص أوقات الفراغ. ويكفي أن نذكر في هذا الصدد أن شابا طموحا اسمه ماثيو كورتني يعمل محاميا لدى مكتب (فرش فيلدز بروك هاوس ديرينجر) قد أصاب لندن بصدمة مفاجئة حين أقدم على الانتحار بإلقاء نفسه من الطابق السادس فمات من فوره.
أما لماذا فعل هذا التصرف فإنه على الأرجح لم يعد قادرا على تحمل ضغوط العمل.
لقد كان كورتني شابا في مقتبل عمره لم يتجاوز السابعة والعشرين، عمل منذ عام 2004 متدربا لدى مكتب فرس فيلدز للمحاماة المتخصص في مجال تقديم الاستشارات القانونية بشأن غالبية صفقات الاستحواذ. وكان الدخل السنوي للمحامي الشاب في حدود 80 ألف يورو وكان متخصصا في مجال حقوق الملكية الفكرية. وبالنسبة للمحامي الشاب الذي يعمل في مكاتب الصفوة للمحاماة كمكاتب فرش فيلدز أو كليفورد تشانس فإنه قد يعمل 16 ساعة يوميا ولمدة سبعة أيام في الأسبوع. فهذا ببساطة ما يتوقع من المحامين الشباب أن يفعلوه إذا أرادوا أن يرتقوا إلى مرتبة المحامين الكبار من ذوي الدخول المرتفعة بعد ستة إلى ثمانية أعوام.
وإذا نجح المحامي الشاب في الصمود أمام أجواء العمل القاسية هذه في مكاتب المحاماة يمكن أن يحقق دخلا يتراوح ما بين مليون ومليون ونصف المليون يورو في السنة. ومن المعروف أن مكاتب المحاماة قد تخلت عن الأسلوب التقليدي في حساب الرسوم والمكافآت وابتدأت في تبني أسلوب محاسبي هو أقرب ما يكون للأساليب المتبعة في البنوك الاستثمارية. ولكن الدخول المرتفعة والمنافسة الحادة مشروطتان بتأدية عمل يقصم الظهور.
وفي حديث أدلى به أخيرا لصحيفة التايمز قال جوني جولدستون, الذي عمل كمحام شاب في مكتب كليفورد تشانس ثم لم يلبث أن تركه، قال إنه كان ملزما، بموجب عقد العمل, بالعمل يوميا 14 ساعة بما في ذلك نهاية الأسبوع. وطوال فترة عمله لم يحصل سوى على يومي إجازة. وقد حدث ذات مرة أنه اضطر للعمل يومين كاملين بصورة متواصلة لم يسمح له خلالهما بالنوم سوى ساعتين على كنبة في مكان العمل، " مع أن لديهم في المكاتب أسرة مجهزة للنوم "، كما قال بكثير من المرارة. وأثناء عمله في مكتب كليفورد تشانس كان عدد الأيام التي يصل فيها البيت بعد منتصف الليل أكثر من عدد الأيام التي يصله فيها الساعة السادسة مساء.
وبديهي أن لهذا النمط من العمل آثارا قاسية على الحياة الخاصة للمعنيين : فالعلاقات الاجتماعية, والهوايات, ولقاء الأصدقاء وأفراد الأسرة لا تكاد تكون ممكنة. فحتى في حالة تمتعهم بيوم راحة تبقى أعين المصرفيين والمحامين وآذانهم مرهونة للهواتف الجوالة أكثر من اللهو مع أطفالهم. وفي هذا السياق يقول بعض المصرفيين العاملين في مركز المدينة بنوع من الاشمئزاز إن "الهواتف الجوالة أصبحت شكلا جديدا من أشكال العبودية" وهناك إحساس بأن المغالاة في العمل لا ضرورة لها في كثير من الأحيان وإنما تستخدم كوسيلة لطمأنة الضعفاء ممن تنقصهم الثقة بالنفس, ولدرء الخشية من أن يبدوا كسالى في نظر زملائهم. فالغبي هو الذي يكون أول من يغادر العمل في المساء إلى بيته. أما الشركاء والمسؤولون فلا يستطيعون أن يكونوا أول المغادرين لأنهم في هذه الحالة سيكونون في أعين العاملين معهم غير جديرين بالمكافآت التي يحصلون عليها.
قلائل هم أولئك المصرفيون والمحامون المثقلون بأعباء العمل الذين يجرؤون على ترك وظائفهم. فمن يحركه الطموح ويستمتع بمقارعة الصعاب لا يتوقع أن يستسلم فجأة بسهولة. كما أن المستوى المعيشي الراقي المعتمد على دفعات العلاوات والمكافآت يجعل مصير العاملين في البنوك, والمحامين مرتبطا إلى الأبد بمركز المدينة. وفقط ذاك الذي لديه ما يكفي لمعيشته يجرؤ على وضع حد لمعاناته. ولكن ما هو مقدار ما يكفي ؟ إن مجلة " برومل " تحذر كبار العاملين في البنوك والمحامين أن يفكروا جيدا بالمقدار الذي يكفيهم من المكافآت والعلاوات قبل أن يستقيلوا من وظائفهم. وتقول المجلة : "إن ما يحتاج إليه المرء بديهية من البديهيات : منزل أنيق في أحد أحياء لندن الراقية, وبيت جميل للإجازات, وما يكفي من المال لدفع أقساط المدارس ولحاجة الزوجة التي تستمتع بإنفاق النقود, ومصروف جيب للهوايات وللسيارات، وهذا يعني بصورة متحفظة بضعة مئات الألوف في كل سنة, وتوفير مثل هذا المبلغ يتطلب استثمار ما لا يقل عن 15 مليون يورو. أما من كان قنوعا فقد يجرؤ على ترك العمل بعد أن يكون قد وفر من سبعة إلى تسعة مليون يورو. ولكي يكون المرء واقعيا أجرت المجلة عملية حسابية لما يحتاج إليه "مبرم العقود الناجح " للاحتفاظ بطائرته الخاصة والإنفاق على هواياته الرياضية المكلفة, وسياراته الأربع, وخلصت إلى أن المطلوب في هذه الحالة لا يقل عن سبعة ملايين يورو سنويا.
وفي الحقيقة إن كثيرا من العاملين في مركز المدينة المالي ينسون إلى أي مدى هو مكلف أسلوب حياتهم. إذ لا بد من دفع ثمن السفر بالطائرات, وتذاكر المسرح, ووجبات العشاء مع الزبائن. ولكن الأهم من هذا وذاك أن رجال المصارف والمحامين المدمنين على العمل ليس لديهم من أوقات الفراغ ما يمكنهم من إنفاق أموالهم ولهذا فالواحد منهم يجد أنه ليس أمامه سوى الإسراع بطلب سيارة فيراري جديدة.
ولا يفلح الكثير من العاملين في مركز المدينة لا في ترك العمل ولا في التكيف مع تغير ظروف المستويات المعيشية الجديدة. بل إن بعض المصرفيين يضطرون, للقبول بالعمل برواتب أقل عندما يغادرون أماكن عملهم الأولى. وفي حالات استثنائية محزنة يمكن أن يؤدي ذلك لنتائج مأساوية. ففي يوم من الأيام وجدت شايلا نفسها فجأة في الشارع مع مجاميع المشردين الذين ليس لهم بيوت تؤويهم. إذ بعد أن فقد زوجها عمله المجزي بشكل خاص في مركز المدينة, وقبوله العمل لدى صاحب عمل آخر مقابل أجر متواضع, سيطر عليها الخوف من أن تصبح معدمة. فالمنزل القائم في ضاحية تشيلسي, وسيارات زوجها من طراز فيراري, وبيت الإجازات في جنوب أوروبا, ومدارس أبنائها المرتفعة الأقساط أصبحت فجأة تأخذ بخناقها كحجر الرحى, فأصابتها حالة من الاكتئاب ولجأت للمشردين تسألهم النصيحة في كيف تستطيع هي وزوجها وأبناؤها العيش في الشارع من دون مال وطعام. وبعد حديث مع المشردين عادت إلى عيادة العلاج النفسي, بينما كان زوجها يوصي لنفسه على سيارة رياضية جديدة.
إن عدد من يستقيل من العمل محدود جدا, وهم فقط أولئك الذين تتوافر لديهم الجرأة والقوة ومن يستطيع من دون لعبة العضلات المالية ومن دون التربيت على الكتف أن يدير تلك العجلة الكبيرة. وقد كان أحد هؤلاء ميكائيل, وهو ليس من نمط المصرفيين الاستثماريين ولا يستطيع أن يسوق نفسه بسهولة وهو بالإضافة لذلك متحفظ, يتحدث بصوت منخفض ولا يحاول أن يتقدم الصفوف. وعلى المرء أن يسأله مباشرة لمعرفة وجهة نظره, وهو ما لا يحظى بالقبول في مركز المدينة, ولهذا فصل من عمله ثلاث مرات, طبعا بعد أن حصل على التعويضات المقررة، ولكنه أدرك أنه لم يعد يحتمل المزيد. لقد تخلى عن عمله, ولجأ هو وزوجته وأطفاله لمنزل ريفي صغير, وراح من غرفة مكتبه في الطابق العلوي من المنزل, يتابع نتائج استثماراته من على شاشة حاسوب محمول. وقد كانت عائدات هذه الاستثمارات بالكاد كافية لمعيشته. ولكن لم يعد أحد يستطيع بعد الآن أن ينهره, أو يطرده من العمل. وفي هذا الشتاء أتيحت له الفرصة في يوم عمل بالغ البرودة, أن يأخذ أطفاله للتزلج على الجليد من دون ترتيب مسبق, وهو بالإضافة لذلك يتابع تطورات أسعار الأسهم في البورصة.

الأكثر قراءة