عقلية الاندماجات اليابانية تنقذ الشركات من الإفلاس

عقلية الاندماجات اليابانية تنقذ الشركات من الإفلاس

شهدت اليابان حالة مميزة من استعادة النشاط الاقتصادي عام 2006 ،عقب عقد ٍ كامل ٍ من الانكماش، وتعدد حالات إفلاس الشركات، وتراجع نسب الأرباح بشكل كبير.
واستعادت أسواق الأسهم نشاطها بما يشبه القفزة الواسعة، حيث ارتفع مؤشر نيكاي بأكثر من 200 في المائة مقارنة بتراجعه التاريخي عام 2003، وأصبحت المكاتب والعمال من الأمور النادرة، وسجلت الشركات أرباحاً قياسية.
ويعيد المحللون، ووسائل الإعلام المختلفة، والمسؤولون في الحكومة اليابانية، هذا النمو القوي إلى التحول الإيجابي الذي شهدته الشركات التقليدية، مثل تويوتا لصناعة السيارات، كانون، نيسان، ونيبون ستيل، وكذلك إلى حركة الاندماجات الواسعة التي شهدها القطاع الصناعي الياباني خلال السنوات الأخيرة الماضية. وأنتجت هذه الحركة الاندماجية الواسعة عمالقة في عالم المال والصناعة مثل سوميتومو ميتسوي وJFE Steel. ويعود الفضل كذلك إلى التغيرات الهيكلية التي نفذتها حكومة كويزومي، مما أدى إلى إشعال عملية النمو الاقتصادي. غير أن هؤلاء المراقبين يغفلون في خضم هذا النوع من التحليل مسألة في غاية الحيوية والأهمية، بحيث تشكل الجانب الأوسع من عملية استعادة العافية الاقتصادية في اليابان. ويتمثل ذلك في الدور الكبير الذي قامت به الشركات اليابانية الناشئة في مجال المعرفة المكثفة، وهي شركات تتولى قيادتها مجموعة من منشئي المشاريع في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم. والحقيقة هي أن الحركة الجديدة للمشاريع الرائدة التي تتكاثر بأعداد غير مسبوقة في اليابان، يمكن أن تغطي على تلك الحركة التي استقطبت الاهتمام والتحدث عنها في وسائل الإعلام فيما يتعلق بالمشاريع الاقتصادية الناشئة في كل من الصين والهند.
إن نهوض اليابان الجديدة يختلف تماماً عن الظروف التي رافقت ظهور اليابان القديمة، حيث كانت الصناعات ذات الرساميل الكبرى تتضمن وجود شركات صناعية يقودها أناس عملوا بصبر شديد لسنوات طويلة خلال الشركة أو المنظمة الصناعية . وكانت هنالك عدة عوامل وراء التحول الجديد القائم على سرعة وخفة الحركة. ولعل من أبرز تلك العوامل ذلك التحول الكبير الذي شهدته مفاهيم التشغيل في اليابان.
وحين انهارت عملاقة التمويل اليابانية، يامايشي، عام 1997، بدأ اليابانيون بالتساؤل عن مدى سلامة الاعتقاد بأن العمل لدى الشركات العملاقة يعني ضماناً للحصول على الوظيفة مدى الحياة. وأدى مثل هذا النوع من التساؤلات إلى انهيار ما يسمى الولاء للشركة أو المنظمة من جانب العاملين فيها. وليست لدى الطبقة العاملة الجديدة في اليابان في أيامنا هذه آمال حول الحصول على وظيفة مدى الحياة. ويركز أفراد هذه الطبقة الآن على تغيير الوظائف، ومحاولات الانطلاق نحو المناصب الأعلى من خلال التطوير السريع للقدرات الذاتية.
وأدت هذه العقلية الجديدة إلى تغيير منظور الناس لأصحاب المشاريع الجديدة، الذين تلقى جهودهم الحثيثة المزيد من الاحترام والتقدير، بحيث أصبحوا قدوة لكل اليابانيين الطامحين إلى تحقيق النجاح في حياتهم من خلال التطوير السريع للنشاطات العملية.
ومن أبرز الأمثلة على هذه النجاحات الجديدة في مجال إنشاء المشاريع الرائدة، ما قام به كينجي كاساهارا الذي أصبح محط أنظار الجميع في اليابان حين أنشئ شركة تشبيك اجتماعي تدعىMixi على غرار MySpace. وأصبحت شركته الجديدة شركة ًمساهمة ً في أيلول (سبتمبر) عام 2006، حيث حققت قيمة رأسمالية في السوق بلغت ملياري دولار خلال عدة أيام. ومن الأمثلة البارزة الأخرى على هذا الصعيد ما قام به هيروشي ميكيتاني من إنشاء لشركة راكوتين التي تعتبر كبرى شكات التجارة الإلكترونية في اليابان. وقلّد هذا الرجل ما يقوم به كبار رجال الأعمال الناجحين في وادي السيليكون في الولايات المتحدة الأمريكية بشراء عدد ٍ من أندية البيزبول وكرة القدم.
ونشأت في اليابان بيئة جديدة ومواتية في عمليات الطرح الأولى للأسهم. وتم طرح أسهم 747 شركة يابانية للاكتتاب العام في الفترة من عام 2001 إلى عام 2005، مقابل 617 شركة أمريكية. وشكلت الشركات التي جرى تداول أسهمها بأعلى من قيمة الطرح منذ اليوم الأول ما نسبته 96 في المائة من مجموع تلك الشركات عام 2005، مقابل نسبة بلغت 94 في المائة عام 2004. وتتطلع الشركات الكورية الجنوبية والصينية إلى طرح أسهمها في الأسواق اليابانية.
وتستفيد المشروعات الجديدة من نقاط القوة اليابانية بشكل عام، حيث تتوافر لليابان بنية تحتية قوية في مجالات الاتصالات، بما في ذلك شبكة بث عريض قوية. كما أن معدل رسوم استخدام الإنترنت فيها أقل بكثير من المعدلات السائدة في الدول المتقدمة الأخرى، أي نحو ربع الرسوم السائدة في كوريا، وبما لا يزيد عن كسر عشري مقارنة بما هو سائد في الولايات المتحدة، أو أوروبا، أو الصين. ويبلغ عدد اليابانيين الذين يحملون أجهزة هواتف جوالة 90 مليون شخص ليشكلوا بذلك أعلى نسبة في العالم . وتشكل نسبة هواتف الجيل الثالث المتقدمة نسبة عالية من ذلك العدد.
ولعل العنصر الأهم في كل ذلك هو أن الاقتصاد الياباني ما زال يحتل المرتبة الثانية بين الاقتصادات العالمية مباشرة بعد اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية. وهو يشكل بذلك أكثر من نصف مجموع الاقتصاد الآسيوي.
وتستطيع المشروعات الرائدة الجديدة في مثل هذا النوع من الاقتصاد الوصول إلى مرحلة الكتلة الحرجة بصورة سريعة للغاية، مما يعطي لهذه المشروعات ميزة مقارنة نسبية إزاء مثيلاتها في كل من الصين والهند. ويعمل التقدم الياباني الكبير، وتطبيق العديد من التقنيات بالغة التقدم، مثل صناعات الإنسان الآلي، والتكنولوجيا النانوية، على إيجاد تربة ٍ خصبةٍ لنمو المشاريع الجديدة.
وعلى الرغم من وجود إشارات إلى العديد من الأمور السلبية، مثل الاتهامات الخاصة بالفساد على صعيد إصدار وتداول الأوراق المالية، كما حدث في شركة ليـفدور، أو ما يقال عن عمليات الاتجار الداخلي الخاص في بعض الشركات، إلا أن هنالك إشارات قوية للغاية على أن اليابان من خلال اندفاعها الجديد في مجال إنشاء المشروعات ستظل قوة رائدة على صعيد المنافسة الاقتصادية العالمية.

الأكثر قراءة