قرش في بلد غير بلدك ..
لا أحد يعرف على وجه التحديد حجم الاستثمارات الرأسمالية السعودية الخاصة في الخارج، لكن ما هو مؤكد أنها استثمارات ضخمة، كما أنها في تزايد بشكل لافت للنظر. والشواهد على ذلك كثيرة من بينها الكم الهائل من الأخبار الاقتصادية والإعلانات التي تكاد تزدحم بها الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، ولا سيما عن مشروعات العقار، السياحة، الخدمات المالية واللوجستية، الصناعات التحويلية، وغيرها. ولا تقتصر تلك الاستثمارات على الدول المجاورة فحسب بل إنها تشمل دولاً أخرى كثيرة في أنحاء المعمورة.
بالطبع هناك من يشعر بشيء من الفخر عندما يرى رجال أعمال من بني جلدته يبنون أو يمتلكون مصانع، فنادق، مرافق تعليمية وصحية، وغيرها خارج أوطانهم كدليل على نضج الحنكة الإدارية والقدرة المالية لأولئك المستثمرين، بل إن تلك الاستثمارات تشكل في نظر البعض جسوراً لبناء مصالح مشتركة مع الآخرين وفتح أسواق أمام الصادرات السعودية.
ولا شك أن تلك النظرة "الواسعة" لظاهرة انتقال الأموال والثروات إلى الخارج لا تتعارض مع سياسة الاقتصاد الحر التي تتبناها المملكة، كما أنها تتناغم مع موجة الانفتاح الذي تقود مسيرته المنظمة العالمية للتجارة. لكن مع ذلك، وكأي ملف آخر له تأثير في الشأن العام، لا يجوز أن يُترك ملف الاستثمارات السعودية المهاجرة من دون تنظيم وتحديد جهة رسمية لمتابعته بشكل يراعي حاجة الاقتصاد الوطني إلى الكثير من تلك الاستثمارات ومن ثم ترتيب الأولويات. وإلا كيف يمكن تفسير الجهود الجبارة التي تبذلها المملكة لاستقطاب استثمارات أجنبية، بينما نجود بأموالنا في استثمارات من أجل الآخرين!.
بالأمس لم تكن هناك حاجة إلى مثل هذا الطرح إذ كانت الفرص الاستثمارية المتاحة في الداخل محدودة، كما أن الاستثمارات السعودية الخاصة في الخارج كانت قليلة نسبياً تعد على أصابع اليد بسبب شح رؤوس الأموال يومئذ وندرة الكيانات التجارية والصناعية الوطنية.
أما اليوم فقد تغيرت الصورة تماماً مع الزيادة المضطردة في عدد السكان ونشوء احتياجات ملحة إلى توفير الخدمات اللازمة لهم وفرص عمل على نطاق واسع لم تخبره المملكة من قبل، ومن حسن الحظ أن صاحب ذلك التغيير تحسن كبير في أسعار النفط، وإدخال إصلاحات اقتصادية تكاد تكون شاملة لتهيئة بيئة مناسبة للاستثمار.
ومن ثم فإن من البداهة أن نفرد ملفاً مستقلاً للأموال السعودية التي قد تُوجّه للاستثمار في الخارج ونتعامل معها بروح لا تقل عزيمة ونشاطاً عن تلك التي كرسناها لجذب الاستثمارات الأجنبية، ولعل الخطوة الأولى في ذلك السبيل أن نرصد الشركات والأفراد السعوديين الذين لديهم تجارب ناجحة في الاستثمار عبر الحدود لبلورة رؤية مشتركة توفر لهم شروطاً منافسة لما قد ينتظرهم في الأسواق المجاورة من أراض بأسعار معقولة، سهولة استقدام الأيدي العاملة، مصادر موثوقة للطاقة والمياه، وغيرها. على أن تسبق الخطوة الأولى تأسيس سجل للاستثمارات السعودية الخاصة في الخارج أسوة بالسجلات التي تحتفظ بها الكثير من الدول لاستثمارات رعاياها من أفراد وشركات في دول أجنبية.
أما الخطوة الثانية فهي تفعيل سياسة "الحوافز الإضافية" وهي سياسة سبق أن مارستها المملكة بنجاح باهر مع شركات النفط الأجنبية في مطلع الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي، عندما تسابقت تلك الشركات لتأمين حصص لها من إمدادات النفط السعودي في سوق كانت يومها شحيحة للغاية، إذ ربطت المملكة تلك الحصص بحجم الاستثمارات التي ألتزمت بها تلك الشركات إلى بناء مجمعات صناعية وبالذات في مجال البتروكيماويات بالشراكة مع سابك. ولولا تلك الخطوة الذكية التي تبنتها المملكة يومئذ لما قامت لأي من تلك المصانع قائمة. تجربة الأمس تلك يمكن إعادة بلورتها لتحفيز أصحاب رؤوس الأموال السعودية المتجهة إلى الخارج لتغيير وجهتها إلى الداخل عبر حزمة من الحوافز، مثل حجم القروض الميسرة التي يقدمها صندوق التنمية الصناعية، صندوق الاستثمارات العامة، شروط استردادها، وغيرها، إذ يمكن من خلال تلك الأدوات توفير حوافز إضافية للمستثمرين من شأنها صرف انتباههم عن الأسواق الخارجية لصالح السوق المحلية بشرط أن تخضع تلك الحوافز لمبادئ الشفافية، العدالة، والمساواة وإلا نكون قد أضفنا سبباً آخر لهجرة الاستثمارات السعودية وتباطؤ الأجنبية.
إن تنظيم ملف الاستثمارات السعودية المتجهة إلى خارج الوطن لا ينبغي أن يشكّل تدخلاً في حرية أصحاب تلك الأموال لاختيار ما يرونه محققاً لمصالحهم، بل حافزاً ومسانداً لهم لسد احتياجات وطنهم أولاً متى ما تساوت العوائد والأرباح مع تلك المتاحة في الأسواق الأخرى، كما أن مثل ذلك التنظيم سيكون دافعاً للجهات المسؤولة عن تشجيع الاستثمار في المملكة وفي مقدمتها الهيئة العامة للاستثمار، وزارة الماليـة، ووزارة التجارة والصناعة للسعي نحو التفوق على الأسواق المجاورة على أن يُقاس ذلك التفوق ليس فقط بكل ريال ننجح في اجتذابه من الخارج، بل أيضاً بكل ريال ننجح في إقناعه بالبقاء وعدم الهجرة عبر الحدود.