تراجع القدرة التنافسية السعرية لمنطقة اليورو
طلب البنك المركزي الأوروبي من دول منطقة اليورو انتهاز فرصة الوضع الاقتصادي الجيد للعمل بجد على تحسين أوضاع موازناتها. ويرى البنك المركزي أن هذا الأمر مطلوب بشدة للحيلولة دون ارتفاع درجة حرارة الاقتصاد أكثر مما ينبغي. وقد نصح البنك المركزي الأوروبي في نشرته الشهرية لشباط (فبراير ) الجاري أيضا أن تأخذ بعين الاعتبار المخاطر الاقتصادية والمالية الكامنة في عجز الحساب الجاري لبعض الدول الأوروبية. وبهذا يتجاوز البنك المركزي حججه الداعية لانتهاج سياسات مالية رصينة إلى التنبيه للصعوبات التي قد تعترض السياسات الداخلية و الناجمة عن التطورات الاقتصادية المختلفة لدول اليورو الأعضاء في الاتحاد النقدي.
وفي الحقيقة أن دول اليورو قد تطورت في اتجاهات مختلفة منذ بداية الاتحاد النقدي عام 1999. ومن المتوقع أن ينعكس ذلك بوضوح، مثلا، في مؤشر القدرة التنافسية السعرية التي يقوم النظام المصرفي لمنطقة اليورو، منذ فترة من الزمن, بحسابها لدول اليورو وفقا لمعايير مشتركة. ومن الجدير بالذكر أن هذا المؤشر يبين حجم ما استطاعت كل دولة من الدول أن تكسب لنفسها أو تخسر من مزايا سعرية في تجارتها مع دول اليورو الأخرى و 44 دولة غيرها. وهنا يجري إعطاء وزن ترجيحي لكل دولة من دول اليورو حسب حجم تجارتها الخارجية مع شركائها التجاريين.
وأظهر المؤشر أن منطقة اليورو ككل قد تراجعت قدرتها التنافسية السعرية خلال الثماني سنوات الأولى من عمر الاتحاد النقدي بنسبة 4.3 في المائة, ويعود ذلك جزئيا لارتفاع سعر صرف اليورو مقابل الدولار. غير أن ثمة اختلافات كبيرة بين دول اليورو: فألمانيا وفنلندة والنمسا استطاعت كلها أن تحقق تقدما في قدراتها التنافسية في التجارة الخارجية خلال الفترة من 1999 إلى 2006، بينما تراجعت القدرة التنافسية لبقية بلدان منطقة اليورو. وقد بلغت نسبة التراجع لأيرلندا مثلا 17 في المائة, وهذا يمكن أن يعزى جزئيا, على الأقل, لحقيقة أن جزءا كبيرا من تجارة الاقتصاد الأيرلندي يتم مع الولايات المتحدة الأميركية حيث كان لانخفاض قيمة الدولار هنا آثار واضحة بشكل خاص.
هذا وتشير تحليلات البنك المركزي الأوروبي إلى أن التطورات التي تطرأ على الأسعار في دول اليورو هي التي تحكم تفاوت القدرات التنافسية لهذه الدول إزاء العالم الخارجي, ففي البلدان التي حققت مكسبا أو خسارة محدودة في قدراتها التنافسية يلاحظ أن أسعار المستهلك فيها كانت أدنى من المتوسط. فأسعار المستهلك في ألمانيا مثلا, بالمقارنة مع متوسط الأسعار في منطقة اليورو, هبطت بنسبة 4.4 في المائة في السنوات الثماني الأولى من عمر الاتحاد النقدي، بينما ارتفعت في ايرلندا بنسبة 11.5 في المائة. و من ثم فإن هذا الفارق يعكس جزئيا عملية تناغم الأسعار وهو الأمر الطبيعي في سوق داخلية مشتركة ذات عملة موحدة. ويشير البنك المركزي أيضا إلى أن التفاوت في تطور الاتجاهات التضخمية يعني تراجعا مستداما في تطور الرواتب والأجور. وإن كان لربط مستويات الأجور بمؤشرات غلاء المعيشة بعض الآثار الملطفة كما في إسبانيا وبلجيكا واليونان وفرنسا وإيطاليا.
في الأعوام الثمانية الأولي للاتحاد النقدي ارتفعت تكاليف الأجور, بالمقارنة مع المتوسط في منطقة اليورو, ارتفاعا كبيرا في البلدان التي شهدت أسعار المستهلك ارتفاعات ملحوظة. وهذا يفسر جزءا آخر من فقدان بعض القدرة التنافسية في التجارة الخارجية لتلك البلدان. كما يظهر ارتفاع تكاليف الأجور بأن الأجور تتطور بوتيرة متصاعدة أكبر من وتيرة تطور الإنتاجية. ويتمثل هذا التطور بشكل خاص منذ عام 1999 في البرتغال واليونان وأيرلندا ولكن أيضا في دول كبيرة من دول اليورو كإسبانيا وإيطاليا. أما في فنلندة والنمسا وألمانيا فإن الانخفاض النسبي في تكاليف الأجور لم يؤد فقط إلى كبح جماح التضخم, وإنما أدى أيضا إلى تقوية المكانة التنافسية للشركات في هذه البلدان في مواجهة منافسيها في العالم الخارجي.
ويحذر البنك المركزي الأوروبي من أن التفاوت في أسعار المستهلك وفي تكاليف الأجور يمكن أن يؤدي إلى اختلال في الاقتصاديات الخارجية بين دول اليورو وهو الأمر الذي يستدعي في نهاية المطاف القيام بعمليات تصحيحية. فهكذا بينت التحليلات أن بلدانا مثل اليونان و البرتغال وإسبانيا التي ارتفعت فيها تكاليف الأجور, هي التي سجلت أعلى نسب العجز في حساباتها الجارية : ففي البرتغال مثلا كان إجمالي العجز في حسابها الجاري خلال الأعوام الثمانية الأولى من عمر الاتحاد النقدي يشكل ما نسبته 56 في المائة من إجمالي الناتج المحلي فيها, بينما بلغت هذه النسبة في اليونان 45 في المائة وفي إسبانيا نحو 30 في المائة. ولما لم يعد ثمة تذبذبات في أسعار الصرف بين بلدان منطقة اليورو يصبح القيام بعمليات تصحيحية لمثل هذا الاختلال في الاقتصاديات الخارجية أمرا لا غنى عنه للمحافظة على مستوى تضخم منخفض وزيادات بسيطة في الأجور بالمقارنة مع الجهات المنافسة, وهو ما قد يؤدي إلى ضعف الطلب في الأسواق الداخلية, كما يقول البنك المركزي الأوروبي. كما أن مثل هذه التطورات يمكن أن تلحق ضررا بالغا باستمرارية السياسة المالية، لأنها ستكون للأسف متلازمة بتراجع في حصيلة العوائد الضريبية وتزايد في النفقات الاجتماعية للدولة.