هجرة الأيدي العاملة من ألمانيا

هجرة الأيدي العاملة من ألمانيا

اتسم رد فعل الجمهور بشيء من القلق لدى معرفته أن العام الماضي شهد أعدادا من المواطنين وهم يديرون ظهورهم إلى وطنهم كما لم يحدث من قبل. يضاف إلى ذلك أن المحصلة النهائية للفرق بين المغادرين والقادمين جاءت ولأول مرة منذ فترة طويلة سالبة بما لا يقل عن 17 ألف شخص، وسرعان ما انتشرت الأحاديث عن هجرة من ألمانيا لا بد من إيجاد الحلول المناسبة لها. ومما لا شك فيه أن الجزء الثاني من هذه المقولة على جانب كبير من الصواب، بينما يتميز الجزء الأول بالدرجة نفسها من الخطأ. حيث إن العدد المطلق للمغادرين لا يزال يزداد كما في السابق، ولكن هذه الظاهرة لم تأخذ أبعادا تدعو إلى الذعر بعد. كما أن المغادرين، وإن كان فقدهم خسارة للوطن، إلا أنهم عائدون إليه ولو بعد حين. أما من نتألم لفقدانهم فهم أولئك الذين لا يعودون إلى وطنهم.
وقد يكون الاقتصاد الألماني في حاجة متزايدة إلى أيد عاملة من الخارج، شابة ومؤهلة فنيا. ولكن المشكلة أن هذه الأيدي العاملة تفضل أن تجرب حظها في بلدان أوروبية أخرى أو في أمريكا. غير أن ألمانيا لا تستطيع، في المدى البعيد، أن تبقى منعزلة عن موجات الهجرة تلك.
إن تقييم حركة الهجرة إلى الخارج التي شملت 150 ألف شخص، من الذين أحصاهم مكتب الإحصاءات الاتحادي في السنة الماضية أمر في غاية الصعوبة، ذلك لأن هذه المجموعة تفتقر إلى التجانس. فهناك المهاجرون التقليديون الذين يحملون عصا التنقل للبدء من جديد في مكان آخر، ولكن هناك أيضا مواطنين ألمانا من الذين عادوا إلى وطنهم الأم من بلدان أوروبا الشرقية السابقة بعد انهيار الستار الحديدي. ومن المعروف أن العديد من هؤلاء لم يفلحوا في تدبير أمورهم وبالتالي لم تجر الاستفادة من قدراتهم الكامنة. ويعتقد أن عدد الذين أصيبوا بخيبة أمل من هؤلاء فعادوا إلى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق هو عدد كبير. وثمة أيضا تلك المجموعة التي تسمى في علم الاجتماع "العمالة المهاجرة" التي لا يعرف أحد عدد أفرادها بدقة. ولكن ثمة بعض المؤشرات على أن عدد هؤلاء الرّحل في تزايد.
ولكن هذا وحده لا يشكل سببا لدق ناقوس الخطر. ففي النهاية لا توجد شركة كبرى إلا وترد في إعلاناتها لاستقطاب أيد عاملة صيغة نمطية هي (مطلوب خبرة أجنبية). وفي مكاتب الإدارة أصبح معروفا أن الموظف الذي وسع أفقه في الجانب الآخر من الحدود هو الذي يفيد الشركة عندما يستغل لدى عودته ما اكتسبه في الخارج من معارف في إنجاز الأعمال اليومية المطلوبة منه. وطبيعي أن يكون من الشروط المسبقة لذلك عودة الموظف المعني فعلا إلى الوطن بعد إقامته عبر الحدود. وعندما لا يحالف الحظ عملية (تبادل العقول) هذه، كما يسميها العلماء، فسيكون من الصعب على الشركات الألمانية العثور على الكوادر المؤهلة.
وبعكس ما هو دارج فإن العمال الأوروبيين لا يحرصون على الاستفادة من حرية تنقل الأيدي العاملة المتاحة لقدامى مواطني الدول الأعضاء، حيث إن نسبة العاملين في بلدان أوروبية غير بلدانهم أقل من 2 في المائة. وقد أدركت لجنة الاتحاد الأوروبي هذه الثغرة ولهذا رفعت العام الماضي شعار تنشيط تنقل العمال عبر القارة الأوروبية.
إن جميع الدول الصناعية تقريبا مهددة بنقص لم يسبق له مثيل في قوة العمل خلال العقود المقبلة بسبب تقلص وتحول مجتمعاتها إلى مجتمعات لكبار السن. وتقدر اللجنة الأوروبية بأن أوروبا سينقصها نحو 20 مليون شخص حتى عام 2030. ولهذا يدور التفكير في بروكسل حول كيفية استقطاب أيد عاملة من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقد أعجبت بفكرة البطاقة الخضراء، على غرار ما هو متبع في الولايات المتحدة لتمهيد الطريق أمام القادمين إلى الاتحاد الأوروبي.
ويواجه السياسيون الألمان على هذا الصعيد صعوبات جمة. فحكومة شرودر حاولت معالجة النقص في قوة العمل في قطاع تكنولوجيا المعلومات عام 2000 بتبني فكرة البطاقة الخضراء. غير أن هذه البطاقة اصطدمت بالإجراءات التنظيمية: حيث إنها ظلت مقصورة على قطاع واحد، وحددت فترة سريانها بخمس سنوات. ولهذا كان الفنيون الهنود الراغبون في الهجرة يجاوبون بـ "نعم" على دعوتهم للقدوم إلى ألمانيا. وعلى أية حال فقد تم صرف 18 ألف بطاقة خضراء من مجموع 20 ألفا كانت معدة لهذا الغرض، غير أن انهيار هذا السوق الجديد في النهاية جعل الموضوع كله طي النسيان. كما أن ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل عام 2005 إلى خمسة ملايين، شجع على تقوية التوجهات الحمائية لدى جميع الأحزاب، وكنتيجة لذلك امتنعت ألمانيا، كدولة من بين دول قليلة في الاتحاد الأوروبي، عن السماح للأيدي العاملة من الدول الأعضاء الجديدة من دخول سوق العمل حتى العقد القادم.
ومع ذلك ترتفع في البلاد الأصوات طالبة النجدة خصوصا في ضوء الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده، فشركات تكنولوجيا المعلومات تشكو وجود 20 ألف مكان عمل شاغر، كما أن صناعات متعثرة مثل صناعة البناء تبحث أيضا عن أيد عاملة. ففي برلين مثلا تتذمر الشركات من أنه لم يعد في الإمكان العثور حتى على بولندي واحد لشغل وظيفة مراقب إنشاءات. ولعله ليس من المستغرب أن نحو 0.75 مليون عامل بناء بولندي يكسبون رزقهم في هذه الأثناء في بريطانيا. فهناك الأجور أعلى والعوائق أقل مما هي في ألمانيا.
ومع ذلك فثمة إمكانية لتغيير السياسات في هذه البلاد. ومن الجدير بالذكر أن وزير الاقتصاد ميكائيل جلوس يريد أن يتولى هذه المسألة بيديه وهو يدعو إلى تسهيل الحصول على حق الإقامة. ولكنه فشل في مسعاه بسبب تعنت الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الشريك في الائتلاف. ومما لا شك فيه أن ثمة ضرورة قصوى للقيام بمحاولة جديدة، وليس ثمة ما يدعو إلى إضاعة مزيد من الوقت، لأن البلدان الأخرى ليست نائمة.

الأكثر قراءة