التحدي السعودي المقبل: التخطيط السليم لاستغلال كل نقطة من برميل النفط الخام

التحدي السعودي المقبل: التخطيط السليم لاستغلال كل نقطة من برميل النفط الخام

التحدي السعودي المقبل: التخطيط السليم لاستغلال كل نقطة من برميل النفط الخام

الإعلان القريب عن إنشاء مصفاتين في كل من الجبيل وينبع بطاقة إجمالية تقارب 800 ألف برميل يوميا، وقبله دمج صناعة التكرير والبتروكيماويات، يبشران بنمو الصناعات النفطية والبتروكيماويات في المملكة لتصل إلى أعلى المراتب في العالم، ولكن الأمل يحدونا بأن يتم التخطيط السليم لاستغلال كل نقطة من البرميل الخام، خصوصا أن هذه السلعة تشكل مؤشراً للاقتصاد العالمي، وأي حدث لهذه المادة من شأنه أن يجعل العالم يقف على قدميه هلعا، ومجرد حدوث أي نزاع، صغيراً كان أم كبيراً، قرب مصادر النفط من شأنه أن يشعل أسعار الخام كما حدث الصيف الماضي.
تعتبر المصافي الحديثة لوحة فنية من الهندسة العصرية، فهي عبارة عن مجمع كبير من الأنابيب وأبراج التقطير والمفاعلات الكيميائية ووحدات توليد الحرارة والمنافع (حيث ينتج بخار الماء). كل هذه الوحدات مجتمعة تقوم على تحويل الخام إلى منتجات عالية القيمة قادرة على بث الحياة في العالم من وقود (خال من المواد الضارة كالكبريت)، ومواد أساسية للصناعات البتروكيماوية الحديثة.
وتعتبر المصافي أيضاً من أهم منتجي الطاقة، وذلك بسبب إنتاجها وقود محركات إنتاج الطاقة، مثل زيت الوقود والديزل، وفي الوقت نفسه تستهلك المصافي كميات هائلة من هذه الطاقة. ففي الولايات المتحدة مثلاً يوجد نحو 130 مصفاة تقوم بتكرير نحو 20 مليون برميل يومياً وتستهلك نحو 8 في المائة من إجمالي الاستهلاك الأمريكي للطاقة.
ويبقى أن نعلم أن هذه المصافي تعمل طوال العام دون توقف وتكلفة تعطلها وصيانتها باهظة، ودائماً ما تؤرق صناع التكرير، وتبقى تكلفة المصافي الباهظة من أكبر عيوب هذه الصناعة، إذ تبلغ تكلفة إنشاء مصفاة واحدة بين 5 و10 مليار دولار أمريكي حسب سعتها وتطورها.
تطورت مصافي النفط في السنوات العشرين الأخيرة بشكل لافت للنظر، ويعود هذا إلى الأسباب التالية:
1) الاهتمام بتكرير أنواع الخام غير عالية الجودة وذات الكثافة العالية، التي تحتوى على نسب عالية من الكبريت. طبعاً هذا النوع من الخام يتميز بسعر منخفض مقارنة بالخام الخفيف.
2) تغير أسعار النفط بشكل مستمر.
3) تشدد المعايير البيئية وازدياد صرامتها لإنتاج وقود أليف بيئياً.
4) التكامل بين صناعتي التكرير والبتروكيماويات.
تتنوع منتجات المصافي لتحتوي على غازات وسوائل خفيفة (نافثا وجازولين) وسوائل متوسطة (ديزل وكيروسين)، وسوائل ثقيلة وسوائل شديدة الثقل مثل زيت الوقود. ويجب أن نعي حقيقة أن المصافي الحديثة يجب أن تمتلك المرونة الكاملة بالنسبة لمنتجاتها، فمثلاً من المعلوم ازدياد الطلب العالمي على وقود السيارات في فصل الصيف مقابل زيادة كبيرة على زيت التدفئة في فصل الشتاء، وبخاصة في البلدان الباردة، وعليه يجب على المصافي أن تملك القدرة على التعامل مع هذه المتغيرات الفصلية وتغيرات الأسواق العالمية.
ويعرض الجدول رقم (1) أنواع وكميات المشتقات النفطية المنتجة في الولايات المتحدة (بالجالون). والجدير بالذكر أن برميل الخام يحتوى على 42 جالونا، وينتج عن تكريره نحو 44 جالونا من المشتقات النفطية، مع العلم أن الولايات المتحدة تعد الأكثر تطوراً في العالم من حيث امتلاك تقنيات التكرير الحديثة.
ويعتبر قطاع النقل أكبر مستهلك لمشتقات النفط بشكل عام، وبخاصة المشتقات السائلة ومتوسطة الحجم، مثل الجازولين والكيروسين والديزل. فعلى سبيل المثال استهلاك هذا القطاع عام 2004 يقارب 67 في المائة من الاستهلاك الإجمالي الأمريكي للنفط، أي نحو 13.6 مليون برميل يومياً من إجمالي 20.5 مليون برميل تحرق يومياً وقودا لوسائل النقل المختلفة، وزادت هذه النسبة عام 2005 لتصل إلى 75 في المائة من إجمالي الاستهلاك الأمريكي للنفط، كما هو مبين في جدول (1).
الصورة في المملكة تختلف عن المشهد الأمريكي، فالمملكة تستهلك 59 في المائة من النفط كوقود لوسائل النقل، ونحو 39 في المائة لتوليد الطاقة. ويعرض الجدول رقم (2) مقارنة في إنتاج المشتقات النفطية في كل من المملكة والولايات المتحدة.
المؤمل أن المصافي الحالية في المملكة قادرة على تلبية الطلب الداخلي لمشتقات النفط، وأن يتم استثمار منتجات المصافي المقبلة بشكل أفضل يعود بالنفع على المواطن السعودي ويساهم في زيادة الدخل الوطني. فكما هو معلوم أن عدد سكان المملكة ينمو بنسبة 2.5 إلى 3 في المائة سنوياً، وهذا النمو الكبير نسبياً في عدد السكان يلقي عبئاً كبيراً على الدولة، وذلك بتأمين مؤسسات التعليم والمؤسسات الصحية، ومن ثم تأمين الوظائف القادرة على دعم هذا النمو السكاني. ومن هنا فإنه قد يكون حان الوقت لاستغلال ثرواتنا النفطية في صناعتنا البتروكيماوية، حيث إن هذا الحقل مثمر جداً لو تم استغلاله بعناية ودراسة عصرية وعلمية.
وكما هو معلوم فإن استخدام المشتقات النفطية في الصناعات البتروكيماوية بدأ عام 1920 لإنتاج المواد الكيماوية الأساسية والمتحولة التي تستخدم في صناعة البلاستيك، المطاط الصناعي، الأدوية، المنظفات، الدهانات، وغيرها. ويرى المراقبون أن منطقة الشرق الأوسط (المملكة أهمها على الإطلاق) سوف تقوم بإنتاج ما يقارب 20 في المائة من الإنتاج العالمي من المواد البتروكيماوية الأساسية عام 2010. ومن المفارقة أن هذه المنطقة من العالم قد وجدت حديثاً على خريطة الصناعات البتروكيماوية العالمية.
ولعله من الإنصاف القول إن إنشاء "سابك" وتوسعها المذهل في الداخل والخارج، وإعلان "أرامكو السعودية" دخول عالم البتروكيماويات المربح بقوة، هي أحداث لا تنسى في تاريخ صناعة البتروكيماويات العالمية، وغيرت خارطتها إلى الأبد. ولكن يبقى التحدي لعملاقي البتروكيماويات (الحالي والمستقبلي) في المملكة، بأن ينتجا مواد جديدة وشديدة التخصص وفائقة الدقة ولم يعرفها عالم البتروكيماويات من قبل، وبخاصة أنهما يملكان مراكز أبحاث وتطوير من الطراز الأول، وينفقان مبالغ طائلة عليها، وقياساً على الإنجازات الجبارة التي قامت بها الصناعات البتروكيماوية السعودية (في السنوات العشرين الماضية) بقيادة "سابك"، فإن الأمل أن يكون العقد المقبل مليئا بالإنجازات العلمية ذات التطبيق التجاري في مجال البتروكيماويات، وأن يكون أكثر من مجرد عمل شراكات مع الشركات العالمية المختصة.

* أكاديمي متخصص في صناعة تكرير النفط والبتروكيماويات ـ الظهران

الأكثر قراءة