هؤلاء الرجال.. يحكمون (1 من 2)

[email protected]

.. ما الأقوى: حكم الفرد صاحب الكاريزما العقائدية، أم الحكم النظامي أو الرسمي؟

سؤالٌ يطرحه واقعٌ عجيبٌ وثابت، ويظهرُ أكثر في البلدان التي يكون فيها للكاريزما العقائدية تأثير قوي وعميق. والنظر في هذه الظاهرة يستلزم حِرصا خاصا في التحليل، ومقدرة على استكناه ما يوجه العاطفة الجماعية، وثقافة متصلة بالطبع الإنساني في العموم.

انتشار ظاهر الكاريزما الفردية أو الحكم الفردي تزداد، وتأخذ زخما عجيبا، ويكاد يكون سرياليا. هذه الظاهرة الطاغية لم تأخذ حقها من الدراسة والتحليل قدر ما نالته من المقاومة الرسمية العنيفة. هنا يجب أن نكون واضحين في مسألة الكاريزما الدينية الفردية أنها تتفوق وتتضخم يوما بعد يوم ولا يعني قطعا أنها ظاهرة صحية، أو أنها بديلة ناجعة لإخفاق العمل الرسمي .. كما أن الحكمَ السريعَ سيكون هشا من وجهة نظر الدارس الإنساني إن نظر إليها من هذه الزاوية. بل يقود الفرد المتحكم مجتمعا كاملا للخراب والتفكك، ومكمنُ نجاحه أنه يحرك الجماهير عاطفيا، حين يخفق النظام في هذه الصناعة بالذات، لأن طبيعة النظام أن يكون صارما أحيانا، ومتجردا في غالب الأحيان .. هذا إن كان متطهرا من الفساد الفاقع، والمحسوبية المؤذية، أو سيكون السباق بين ظاهرتين سيئتين .. وإن كان سوء النظام، مهما أوغل في فساده، أقل خطرا من الفرد الحاكم ببرنامجه العقائدي الذي يتسم بهذه الكاريزما التي تكون مزيجا بين الشخصية والمعتقد. قبل أن أمضي في كشف الظاهرة، ولا أقول أحللها فالتحليل يحتاج إلى أدوات أعمق وأدق، علي أن أشير أني أعطي الصفة العقائدية الحظ الأول لتكون عنوان الحكم الفردي المؤثر، وليس فقط العقيدة الدينية على التخصيص.

في الخمسينيات وأوائل الستينيات حكم دولاً ومجتمعاتٍ أفرادٌ كانت لهم هذه الكاريزما العقائدية الطاغية، ومعظمهم، أن لم يكن كلهم، قادوا دولهم أو مجتمعاتهم إلى منحدرات التخلف والفقر وسوء التطلع السياسي والقيادي. كان "أرنستو تشي غيفارا" الشخصية الكارزمائية الأولى في الخمسينيات ليس فقط من مقر أعماله في قيادة الميليشيات والدعوة للثورة العالمية من أدغال أمريكا الجنوبية، ولكن أثره عم كل العالم بموجة تفوقت على أثر النظام الدولي. كان غيفارا من الثوريين الرومانسيين ويحلم بتوحيد كامل أمريكا اللاتينية، وكان مثقفا من طراز فريد جدا، وكاتبا يذيب كلماته مباشرة مع نبضات القلب كما قال عنه همنجواي الأمريكي الشهير مع أنه لم يكنّ له حبا.. ولكنها الحقيقية. وكان معجبوه من أطراف العالم يحجون إليه في بوليفيا وكولومبيا ويزار موقعه في الارجنتين، وصار مؤثراً عقائديا فرديا، مما دعا داهية كارزمائيا آخر – ولكن أكثر عملية من غيفارا- وهو فيدل كاسترو الشاب الكوبي الثائر على النظام الفردي لباتيستا في الخمسينيات من القرن الفائت، ليشكل معه مقاومة عنيفة ومنظمة من أجل تحرير كوبا، وقد نحجت نجاحا مذهلا أطاح بنظام باتيستا ، وقوض السيطرة الأمريكية التي كانت تعتبر كوبا ضيعتها في الهادي حيث تبعد فراسخ بحرية قليلة عن فلوريدا الأمريكية.. ولكن ما الذي حدث؟ كاسترو العملي تسلم كوبا بيد من حديد وبقي فيها، ثم عزلها عن العالم، وزاد من فقرها فقرا، وتعدى بفرديته الكارزمائية بغاضة حكم باتيستا وشخصيته النتنة العنيفة.. ومازال. بينما غيفارا غضب من رفيقه الثوري لأنه وقف عند كوبا وتفاوض مع الروس الذين نقضوا عهودهم في دعم الحركة لتعم كل أمريكا الجنوبية .. ثم انتهى غيفارا الثائر الرومانسي المتطهر نهاية ذلٍّ خقاقٍ وموتٍ حقير، وقاد من معه إلى حتفهم ونهاية رحلة فشلهم .. زالت قوة غيفارا، إلا أن جماليته الشخصية مازالت بعنفوانها إلى اليوم.

وهناك نوع آخر من الكاريزما الشخصية من داخل النظام وفوقه بمراحل، فقد كان عبد الناصر أمام الشعوب العربية لا يمثل نظاما أو حتى دولة ولكن يمثل شخصية بسحر يستعمر القلوب ويعطل العقول .. فقاد العرب إلى تجارب فاشلة ما زال الوطن العربي يعاني منها، وكان تيتو اليوغسلافي ومعاصره من ذات الطراز، كما كان كاسترو.

وعندنا الآن في الشرق الأوسط، والعالمين العربي والإسلامي ظاهرة الحكم الفردي الكاريزمائي الديني، وهو لم يأت موجة قوية كما غيفارا أو تروتسكي أو عبد الناصر، فهبّ كأنواءٍ عاصفة تجرف ما أمامها بلا تفكير إلا من حقٍّ يُستمد من السماء. أول ما بزوغ لهذه الظاهرة كان في أكثر البلدان العربية تحررا، وأكثرها انفتاحا على كل العالم .. لبنان، وهنا المفارقة، حين بزغ نجم "موسى الصدر" الشيعي الإيراني الذي قدم للبنان هاربا من طغيان الشاه، ليملأ الإعلام ويشغل الناس، وأسس حركة أمل الشيعية، وصار رجل الدين الإيراني أقوى من الزعماء اللبنانيين المحليين، وكان موسى الصدر هائل الجاذبية بشكله وطلته وإهابه وهندسة لغته الأخاذة الي لم تمنع فتننتها العجمة الفارسية.. إلا أن الصدرَ لم يكن يفكر عسكريا، وإنما يفكر من داخل إطار التنظيم السياسي والمدني، وإن عزز موقع الشيعة في لبنان إلا أنه لم يزرع عنفاً، ولكن جعل للشيعة صوتا مسموعا بعد أن كانوا تماما من غير صوت في المحفل السياسي اللبناني .. ولم يقدر للرجل أن يعمل كثيرا فقد اختفى في رحلة إلى ليبيا، ولم يعد، واكتسب أيضا ومن خلال المخيلة الشيعية قداسة فوق قوته الكارزمائية الشخصية.

وكان حسن البنا وسيد قطب أيضا من الشخصيات الكارزمائية الدينية التي غيرت وجه العالم العربي قاطبة ورسمت منعطفا تاريخيا فكريا وعمليا في العمل الديني على أرض الواقع، وأسسا فكرا غرز آلة سياسية فعالة داخل المجتمع المصري، وفي السوري يوما، وما زالت هذه القوة الكاسحة تدير العاطفة الشعبية بين المصريين في مختلف الطبقات، بينما سيد قطب ذهب في منحى آخر، فقد كان له أجمل أسلوب يكتب بالعربية ويتميز بالخفة والطلاوة واستخدام الثقافة القرآنية الواسعة، مما جعل كتبه تنتشر انتشارا لم يتوقعها أحد ربما حتى قطب نفسه.. ولكن في داخل هذه الجمالية والثقافة زرع وبشكل – ربما نهائيا - الفكرَ التكفيري والجهادي، وكانت طريقة قطب لا تحمل العنف ولا التهديد، ولكنه مثل سطح البحر الهادئ، وفي الأعماق تدور الأعاصير. وأيضا، فإن فكر قطب ما زال حيا بعد أن أُعدم.. ووفر إعدامه زخما أعظم لدفع أفكاره عبر أجيال المستقبل. إعدامه خدم أفكاره، وعاقب النظام الذي تُوج باغتيال السادات رئيس جمهورية مصر ألذي دعا لسلامٍ مباشرٍ وواضحٍ مع إسرائيل.

ثم جاء ثلاثة معاصرون.. تعدت أدوارهم كل من سبقهم. نتناول ذلك معا إن شاء الله في المقال المقبل، يوم الإثنين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي