الهم الروسي مجددا
الهم الروسي مجددا
تتمثل المفارقة الأولى في اسم أنبوب النفط الذي يحمل الإمدادات من روسيا إلى روسيا البيضاء ومنها إلى دول أخرى، إذ يطلق عليه "درزهبا" باللغة الروسية، ومعناها "الصداقة".
هذه "الصداقة" لم تمنع موسكو من اتهام رصيفتها منسك، عاصمة روسيا البيضاء، أنها تستغل الدعم الذي تقدمه لها لإعادة بيع الشحنات الروسية إلى دول أوروبية غربية بأسعار مرتفعة، وأنه ما لم تقبل روسيا البيضاء بالسعر الجديد، فإنها ستوقف الإمدادات، وأتبعت قولها بالفعل، لأن روسيا البيضاء قامت بخطوة معاكسة، إذ فرضت رسوم عبور إضافية على كل طن من النفط الروسي المار بأراضيها.
ولا تقف المفارقات عند هذا الحد، فمنسك تكاد تكون هي الحليف السياسي الوحيد لموسكو بين منظومة جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة التي تفرقت بها السبل، واعتمد الكثير منها نهجا سياسيا أقرب إلى الدول الغربية منه إلى روسيا، لدرجة أن الكثير من وسائل الإعلام الغربية تدعو الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكيشنكو آخر طواغيت المرحلة السوفياتية.
لكن حسابات المال تجاوزت حسابات السياسة فيما يبدو، فروسيا بوتين تسعى إلى إعادة تأهيل نفسها اعتمادا على قدراتها الذاتية وفرض نفسها لاعبا سياسيا يتقوى عبر موارده النفطية والغازية. وفي النصيحة القديمة لمكيافيللي للأمير أنه من الأوفق أن يكون محبوبا ومرهوب الجانب في آن، وإذا تعذر الجمع بين الاثنين، فمن الأفضل للأمير أن يكون مرهوبا على أن يكون محبوبا بلا رهبة.
ومع أن ذلك النزاع تمت تسويته، إلا أن له جانبه الآخر، فهو يأتي بعد شهر حافل حققت فيه شركة الغاز التي تسيطر عليها الدولة "غازبروم" إنجازات رئيسية بفرضها أسعارا أعلى على المستهلكين وفتح بعض أسواق أوروبا الغربية أمامها للبيع مباشرة إلى الجمهور. وهذا كله مما يصب في اتجاه تعضيد سلطة الكرملين وروسيا بصورة أكبر.
لكنه في الوقت ذاته يثير مخاوف من جانبين: أولهما مدى قدرة روسيا على الوفاء بالتزاماتها تجاه زبائنها، ومن بينهم دول أوروبية غربية يتزايد اعتمادها على الغاز الروسي، وأهم من هذا كله إلى أي مدى يمكن الاعتماد على الإمدادات الروسية نفطا وغازا لتأمين الطاقة للمستهلكين الأوروبيين؟
وهذا النقاش ليس جديدا، ففي إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان طرح الأمر على مائدة البحث، حيث كان ريجان الذي وصف الاتحاد السوفياتي وقتها بإمبراطورية الشر التي يجب تفكيكها، يقف موقفا معارضا لاعتماد أوروبا الغربية على الغاز السوفياتي وقتها، ووصل به الأمر إلى منع الشركات الأمريكية أن تقدم تقنيتها وخبرتها ورساميلها للإسهام في مشاريع مدّ خطوط الأنابيب من روسيا إلى بعض الدول الأوروبية.
ومع أن إمبراطورية الشر تفككت ومعها الاتحاد السوفياتي، إلا أن روسيا لا تزال لاعبا مهما، ورغم الصلات الطيبة التي نسجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رصيفه جورج بوش، إلا أن الهواجس لا تزال تلقي بآثارها على صانعي السياسة الأمريكية، فإدارة الرئيس السابق بيل كلينتون أصرت على تخطي الحسابات الاقتصادية وتمرير الخط الذي ينقل النفط والغاز من منطقة بحر قزوين المغلقة عبر مسارات تتجنب روسيا.
موسكو فيما يبدو يمكن أن تفرض وجهة نظرها فيما يتعلق برفع الرسوم في ميداني النفط والغاز على حلفائها السابقين وإرغامهم على دفع سعر السوق لمبيعاتها إليهم، لكن تكرار لجوئها إلى خيار إغلاق صنابير النفط والغاز وفي أوقات حرجة يعيد إثارة السؤال القديم عن مدى موثوقية الاعتماد عليها مزودا لإمدادات النفط والغاز، فبوتين أمضى وقتا طويلا لإقناع رصفائه من الزعماء الغربيين أنه يقدم روسيا مزودا مأمونا للطاقة بديلا عن منطقة الشرق الأوسط المضطربة دوما ولها سجل في قطع الإمدادات لأسباب سياسية.
بالنسبة للمستهلكين قد يكون الحديث عن أن قطع الإمدادات تم لأسباب سياسية أو اقتصادية من نوع الجدل الأكاديمي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، خاصة أن واقع الحال يشير إلى أن قطعا للإمدادات قد تم فعلا وفي وقت حرج ودون اللجوء إلى خيارات تحكيم أو إنذارات، كما أنه من الصعوبة بمكان فصل السياسي عن الاقتصادي في دولة لا تزال طبقتها السياسية والأمنية تتحكم في مفاصل وضعها الاقتصادي.
على أن هذه القضية تحتاج إلى النظر إليها في إطار الصورة الأكبر والمتمثلة في إطار ضمان الإمدادات من قبل المنتجين للمستهلكين، وفي إطار تثبيت عامل الاستقرار في السوق النفطية لصالح الجميع. فالقدر نفسه الذي يرغب فيه المستهلكون في تنويع الإمدادات التي تصلهم، فإن المنتجين يرغبون كذلك في تنويع الأسواق التي تذهب إليها إمداداتهم، كما أن العامل الاقتصادي يلعب دوره بالنسبة للجانبين، مع الفارق أن المستهلكين يريدون أرخص سعر ممكن والمنتجون يرغبون في أعلى سعر ممكن، هذا إذا كان الحديث يجري بصورة مطلقة، لكن واقع سوق النفط يشير إلى أن تراجع سعر برميل النفط إلى عشرة دولارات مثلا لم يكن كله خيرا على المستهلكين، كما أن ارتفاعه إلى معدلات قياسية لم يكن كله خيرا على المنتجين. فبالنسبة للأولين وضع تراجع السعر بذور أزمات إمدادات مستقبلية، وبالنسبة للآخرين سمح السعر العالي ببروز منتجين آخرين يزاحمون الموجودين في السوق بإمدادات إضافية.
نقطة التوازن بين هذا كله هو ما يحتاج إلى البحث بشأنه أكثر من تسجيل نقاط هنا وهناك.