استراتيجية السعودة.. وروبن هود...!1/2
يُحكى أن أسطورة تُدعى روبن هود عاش في القرون الوسطى في أوروبا كان شخصا تملأ قلبه الرحمة والشفقة على الفقراء والمساكين والضعفاء من الناس، فقرر أن يضع حدا لمعاناتهم وأن يساعدهم على تخطي محنتهم وينهي مأساتهم فما كان منه إلا أن يسطو على الأغنياء والمترفين في المجتمع ويأخذ من أموالهم عنوة وقسرا دون وجه حق ودون قانون، همه البذل والعطاء لهؤلاء المحتاجين حتى ولو من مال غيره! مشكلة روبن هود أنه امتطى صهوة النيات الحسنة وظن في نفسه خيرا واعتقد أن ذلك يخوله ليقرر للآخرين حتى ولو كان ظلما وعدوانا وأن له وحده كامل الحق أن يفعل ما يشاء لأن هدفه نبيل وغاياته سامية وعندئذ يكون التجني على أناس من أجل آخرين فضيلة! نبراسه في ذلك فهمه الخاطئ لمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"! الكثير من الناس الذين يستعجلون الأمور ويريدونها الآن وحالاً دون تريث وتعقل وبأقل جهد يطبقون الفهم الخاطئ لهذا المبدأ. هؤلاء ينتشرون بين ظهرانينا تجدهم في كل المواقع وعلى جميع المستويات وعلى جميع الأصعدة ومناحي الحياة. الطبيب عندما يغلبه هاجس "الروبن هودي" فيهب لمساعدة مريضه بأن يقرر عنه ويصف العلاج دون استشارته وبذل الخيارات المتاحة أمامه فهو يهمش مريضه بقصد نبيل! بعض الطلاب يغش في الامتحان وهو في واقع الأمر يغش نفسه، إلا أنه في أوج السعادة لأنه سيحقق النجاح (المغشوش)، وهناك من التجار من يطفف في الميزان وهو في غاية الزهو بخديعته وتغلبه على الآخرين (كما يظن) وتحقيق الربح السريع، وما علم أن ذلك في نهاية المطاف سيسيء لسمعته، التي هي رأس ماله الحقيقي، وثلة من الموظفين يتعالون على المراجعين يبخسونهم أشياءهم وقد تملكهم حب السيطرة وهوس التسلط على الآخرين ونسوا أو تناسوا أنها لو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم، وبعض القرارات والاستراتجيات تكون مجحفة غير واقعية توجد أوضاعا تكون خسراناً ووبالاً على الجميع، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يصفق لها معدوها.. فقط! وقد يكونون هم أول من يكتوي بسلبياتها. جميع هؤلاء لديهم اعتقاد راسخ أن الغاية تبرر الوسيلة مهما كانت وبأي تكلفة ينميه ويرعاه فكر توحدي (باتجاه واحد) دون مبالاة لآراء الآخرين همهم تحقيق مكاسب آنية سريعة دون النظر إلى الصورة الأكبر والأشمل والأمد الأطول وإحداث تغيرات أصيلة غير شكلية تدوم وتؤتي أُكلها ولو بعد حين. إن المعنى الحقيقي لمبدأ ماكيفيللي "الغاية تبرر الوسيلة" هو أن اختيار الوسيلة الأفضل والأنجع من بين عدة بدائل يكون على أساس قدرتها على تحقيق الغاية تحقيقا فعليا حقيقيا يدوم طويلا لا شكليا هشا سرابا يحسبه الظمآن ماء، فالطالب قد ينجح بالغش والتاجر قد يحقق مكاسب بالتطفيف والموظف قد يشار إليه بالبنان والاستراتيجية قد يصفق لها البعض لكن لا يتعدى ذلك أن يكون فقاعة هواء ما تلبث أن تتلاشى ولا يبقى منها شيء.
لا أعرف ماذا حلّ بروبن هوود والمجتمع الذي كان يعيش فيه ولكن أتصور أنه لم يستمر طويلا وقد يكون هناك أكثر من سيناريو جميعها تشير إلى أن البلدة قد تلاشت وانتهت من الوجود. فالجميع قد رحل! أغنياؤهم، فقراؤهم، منهم من مات جوعا أو أوشك على الهلاك والبقية الباقية نزحوا إلى أرض أخرى ولم يبق أحد! لقد ماتت البلدة اقتصادياً!.. تبعه موت كل شيء! لقد فقدت تلك البلدة التوازن المطلوب، وكان لا بد من التوازن حتى تُعمر الأرض، وعندما نطغى في الميزان تفسد الأرض وتتحول إلى بوار. من أجل ذلك وضعه الرحمن وأمرنا ألا نطغى فيه، بل أن نقيم الوزن بالقسط ولا نُخسر الناس أشياءهم. لذا كان من الأدعى إيجاد توازن بين احتياجات الفقراء والأغنياء، فمساعدة الفقراء تقتضي مساعدة الأغنياء! في تشجيعهم على الإنتاج ودفعهم نحو الاستثمار حتى يكبر الاقتصاد وينمو ويستوعب الجميع، فالغنى وزيادة الثروة يكونان أمرين محمودين، بل مطلوبين لأن لها أثرا اقتصاديا إيجابيا على الأقل حظاً في المجتمع. ما كان على روبن هود عمله هو التحول من محارب شجاع مقدام لا يهاب أحداً إلى اقتصادي بارع، وسياسي محنك، يحتوي الجميع ويوجد نظاما يساعد على تكبير الكعكة الاقتصادية وتوزيعها (وإن شئتم كبسة سعودية) حتى تكفي الجميع لا أن يذبح البطة التي تبيض ذهبا بحجة إطعام الجياع! ثم ماذا؟.. هلاك الجميع!! سياسة روبن هوود أثبتت فشلها لأنها لم تستمر، بدليل أن المجتمعات المتحضرة الواعية لا تجيز مثل تلك الأفعال الاغتصابية حتى ولو كانت النوايا صالحة. المجتمعات الرشيدة العقلانية تتعلم بوعي تام ماذا عليها القيام به وكيف تحقق معيارها الكفاءة الاقتصادية والفاعلية في إطار توجهات وتطلعات واحتياجات المجتمع بجميع أطيافه ومختلف فئاته ومكوناته. لا مكان عندهم للعواطف الجياشة ولا الأمنيات الحالمة لا ينتظرون فارساً مغواراً أو بيتاً من الشعر ليندفعوا نحو العمل. هم أُناس واقعيون منطقيون نظاميون يربطون بين المدخلات والمخرجات يواجهون واقعهم بموضوعية وشفافية وجماعية بل يحددون واقعهم بالتحسب للمستقبل واستباق الأحداث والتنبؤ بها بناء على دراسات ومؤشرات إحصائية وقرارات محسوبة وحقائق واضحة وتبريرات منطقية وتوجهات مجتمعية. لا يمارسون عمليات الإقصاء لكل من يخالفهم الرأي. حلولهم تأتي بالتفاوض ومقارعة الحجة بالحجة والنقاش وطول النفس والسعي نحو الالتقاء في منتصف الطريق، فعندهم الاختلاف لا يفسد للود قضية مبدأ عملي لا حديث من أحاديث المساء! وفي النهاية يصلون إلى أوضاع ترضي جميع الأطراف وليس بالضرورة تعظم مصالحهم كفئات وأفراد.
الحقيقة الماثلة في كل مجتمع أن جميع أفراده في نفس السفينة. هذه حقيقة تدركها بعض المجتمعات وتغيب عن البعض الآخر، وبناء على مستوى إدراك هذه الحقيقة تكون النظرة والفلسفة في طريقة اتخاذ القرارات وصياغة الاستراتجيات العامة. المجتمعات النامية (ونحن إحداها) ما زالت تعاني من بعض القرارات الفوقية التهميشية العاطفية. في ظل الظروف الراهنة والمستجدات الحالية والمتغيرات المستقبلية لم تعد النيات الحسنة تكفي كمبرر للاستراتجيات العامة. ولا نستطيع نقل استراتجيات الآخرين التي أعدت لمواجهة مشاكلهم الخاصة وتطبيقها في مجتمعنا الذي له خصوصيته وتكوينه الثقافي المتميز. ليس مهم أن يكون لدينا إستراتجية وحسب الأهم أن تعكس الاستراتيجية واقعنا وتتناسب مع ظروفنا وترتقي لتطلعاتنا وقادرة على إيجاد أوضاع مستقبلية أفضل لجميع مكونات المجتمع.
لقد حضرت في الأسبوع الماضي ورشة عمل لمناقشة مشروع استراتيجية السعودة تلبية لدعوة كريمة تلقيتها من لجنة الموارد البشرية بغرفة تجارة وصناعة الرياض. الاستراتجية التي جاءت بعد صدور نظام العمل، كان من المفترض أن تسبقه ليكون نتاجا لها وليس العكس! تبقى كفكرة أمر يُحسب لوزارة العمل ومبادرة جيدة في التفكير بالمستقبل والإعداد له وأن يكون الجميع على بينة من الأمر وتوجيه الجهود والموارد في الحاضر لتحقيق الأهداف المستقبلية. كما أن إقامة مثل هذه الورشة لمناقشتها وورش مماثلة في مناطق أخرى أمر في غاية الأهمية، خاصة أن المقترح الأول للاستراتيجية لم يرتق لمستوى التوقعات ولا إلى الحد الأدنى من أساسيات الدراسات الميدانية والمعايير المهنية الاستشارية لا مضمونا ولا تقديما وتحتاج إلى إعادة صياغة وتعديلات جوهريه. وبهذا الصدد أتمنى على الوزارة تعديل طريقة مناقشة مقترح الاستراتيجية عن تلك التي تمت في الرياض، وأن يوجه وينبه الاستشاري إلى أن الهدف من ورشة العمل التعرف على آراء ومقترحات المشاركين، وبالتالي لا يحق له فرض طريقته وآرائه في النقاش، فالمشاركون لم تتح لهم الفرصة لمناقشة المبررات والفرضيات التي بُنيت عليها الاستراتيجية، بل لم يكن هناك أية إحصائيات تشير إلى حجم المشكلة وطبيعتها وما هي المتغيرات الرئيسة المستقبلية وطريقة التنبؤ بها! لقد كان من الأجدر أن توضح تلك الأمور حتى يعلم الجميع لماذا اختيرت هذه السياسات والأهداف والآليات دون غيرها، وإلا فالمرء عدو ما يجهل. إن نجاح أي استراتيجية عامة مرهون بالدعم والتأييد الاجتماعي. لن يكون هناك دعم وإسهام من الأطراف المعنية والفاعلين في قطاع العمل في تنفيذ هذه السياسات إذا لم يكن هناك قناعة بمبرراتها ومن ثم فاعليتها.
أمر آخر ونحن في غمرة الحديث عن السعودة ومناقشة استراتيجيتها، لماذا لم تتم الاستعانة في إعدادها بالخبرات السعودية في الجامعات؟! ألم يحن الوقت لجعل مفهوم السعودة أكثر نضجاً! ليشمل النشاط الفكري والعلمي وجميع الأنشطة ولا يتوقف عند توظيف الباحثين عن العمل؟ هل يعقل أن تعطل الجهود الفكرية لأعضاء هيئة التدريس ويهمشون بينما يقوم بها مكتب استشاري قد يكون من بين موظفيه من هم غير مواطنين وحتى ولو كان جميعهم مواطنين ألم يكن من الحكمة ونحن نتحدث عن استراتجية وطنية أن توكل إلى إحدى الجامعات أو مجموعة مختارة من أعضاء هيئة التدريس مهمة إعدادها أو على أقل تقدير المشاركة فيها والإشراف عليها. السعودة تعني مجتمعا سعوديا مبدعا ومبتكرا يسهم في الاقتصاد العالمي ويضع بصمة متميزة من خلال مبتكرات أصيلة ومنتجات جديدة ذات جودة عالية بفكر وجهد سعودي 100 في المائة لنحقق ميزة تفضيلية تجعلنا في وضع تنافسي قوي.
أقف عند هذا الحد لأواصل حديثي في الأسبوع المقبل، بمشيئة الله، لأعرض لبعض الملاحظات التي دونتها عن محتوى الاستراتيجية.
رئيس قسم التخطيط الحضري والإقليمي
جامعة الملك فيصل
[email protected]